كان مارتن لوثر كينغ الثالث في العاشرة من عمره حين أُطلقت النار على والده على شرفة الغرفة 306 في نزل «لوراين» في ممفيس في الرابع من نيسان (أبريل) عام 1968. وبعد مرور أربعين سنة، ما زال يتذكر كامل تفصيل ذلك اليوم. يخبر: «كنا أنا وإخوتي نشاهد نشرة الأخبار المسائية في المنزل في أتلانتا عندما سمعنا أن الدكتور مارتن لوثر كينغ الابن تعرض لإطلاق نار».

ويضيف موضحاً: «ركضنا إلى غرفة أمي ورأيناها تستعد للمغادرة لأنها تلقت اتصالاً علمت من خلاله أن والدي أُصيب وأن عليها الذهاب إلى ممفيس سريعاً. لم تكن تعرف مدى خطورة الإصابة».

Ad

لم تصل كوريتا سكوت كينغ إلى تنسي تلك الليلة. فبعد ساعة، في السابعة والخمس دقائق مساء، أُعلنت وفاة زوجها. يذكر ابنها: «عادت لتضعنا في السرير وأخبرتنا أن والدي ذهب إلى منزله ليعيش مع الله وأننا سنراه مجدداً في يوم من الأيام. وقالت لنا أيضاً إننا حين سنراه ثانية هنا على الأرض سيبدو وكأنه نائم، فلن يتمكن من التحدث إلينا أو ضمنا أو تقبيلنا، لكنها طمأنتنا بالقول إن الله يكافئ خدامه ويأخذهم إليه، فأراحتني عباراتها حينذاك».

لم يدرك كينغ الثالث مدى أهمية والده إلا بعد اغتياله. كان يعرف أن والده صديق الشخصيات البارزة أمثال هاري بيلافونت وسيدني بواتيه وسامي ديفيس. لكنه لم يتوقع رؤية ذلك الحشد من المشاهير الذين تدفقوا إلى منزل العائلة في شهر نيسان (أبريل) سنة 1968 لوداع أبيه. يروي كينغ: «حضر كل مَن لديه طموح سياسي ويترشح لمنصب مهم: ريتشارد نيكسون وروبرت كندي وتيد كندي وجاكي كندي أوناسيس وبيل كوزبي وروبرت كلاب، اللذان مثلا في I Spy وكانا أول ثنائي من عرقين مختلفين يظهران على شاشة التلفزيون. كذلك حضرت كلّ مِن اريثا فرانكلين وجايمس براون ومارلون براندو وتشارلتون هيستون، وجميعهم من أبرز العاملين في مجال التسلية والترفيه آنذاك. عندئذٍ أدركت أن والدي كان شخصية مهمة جداً».

ذكرى رحيل الحلم

يصادف اليوم التاسع من نيسان (أبريل)، ذكرى تشييع الدكتور كينغ، وفي مثل هذا اليوم عام 1968 أعلن الرئيس جونسون الحداد الوطني. يقول مارتن لوثر كينغ الثالث: «لم يسبق أن رأيت في حياتي حشداًً يجتاح الشوارع مثل الحشد الكبير الذي تجمع في شوارع أتلانتا ذلك اليوم». فحتى ذلك اليوم، حاول مارتن لوثر كينغ إبعاد أولاده عن حياته العامة. وهذا ما يوضحه كينغ الثالث، قائلاً: «لم ندرك، نحن أولاده، أنه كان شخصية بارزة. وبما أن أمي تولت مهام تأديبنا، اعتبرناه صديقنا. عندما كان والدي يأتي إلى المنزل، اعتاد وضعنا على أعلى الثلاجة لنرتمي بين ذراعيه. صحيح أننا لم نمضِ وقتاً طويلاً معه، إلا أن الفترات التي قضيناها معاً كانت ممتعة وأتمنى من كل قلبي لو أُتيحت لي فرصة التحاور معه بعدما صرت راشداً».

في مناسبات قليلة، رافق مارتن لوثر كينغ الثالث وأخوه ديكستر والدهما في رحلاته. ولا يزال كينغ يذكر إحدى هذه الرحلات بكل وضوح. قصدوا سانت أوغسطين في فلوريدا، تلك البلدة التي عمل فيها رجال الشرطة قيّمين على الأمن في النهار وأعضاء منظمة كو كلوكس كلان في الليل. وعندما سُمح للسود باستخدام حمامات السباحة العامة، أُضيف الحمض إلى الماء.

علاوة على ذلك، عانى وإخوته الثلاثة (أخ وأخت أصغر منه سناً وأخت أكبر منه لم تعد على قيد الحياة) من التمييز العنصري. يتذكر كينغ: «كان في أتلانتا منتزه للألعاب يُدعى «مدينة المرح» وكلما مررنا بقربه، قلنا لوالدنا إننا نود زيارته. لكنه كان يجيب أننا لا نستطيع ذلك. لذلك لن ننسى تلك الأيام الجميلة التي أمضيناها معاً حين سُمح للسود أخيراً بدخول «مدينة المرح». اصطحبنا والدي إلى ذلك المنتزه حيث قضينا أوقاتاً مليئة بالبهجة. طبعاً، نسينا كل شيء عن بعد فترة، إلا أنني أدركت لاحقاً مدى أهمية ذلك اليوم».

لم يرث صوت والده أو مهارته المميزة في فن الخطابة. فهو يتكلم بلهجة رقيقة، بخلاف ذلك الصوت الجهوري الآمر الذي ألهم الملايين. كذلك لا يملك وجه والده البارز الملامح ولا سطوته التي ترهب الجميع. إنه ممتلئ الجسم وودود، لكنه يحمل اسم والده. وبعد مرور 40 سنة على موت مارتن لوثر كينغ الابن، لا يزال هذا الاسم يتمتع بسلطة واسعة ومسؤولية كبيرة.

وعن هذه المسألة يقول: «تثقل هذه المسؤولية كاهلي. إذا استيقظت كل صباح وحاولت أن أحل محل أبي، سأفشل فشلاً ذريعاً، لذلك أشعر بالامتنان لأمي لأنها ربتنا وعلمتنا أن نتصرف على طبيعتنا. اعتادت أن تقول لي: «مارتن، لا داعي إلى أن تكون مارتن لوثر كينغ الابن». هذه شخصيتي، وكل ما يمكنني فعله هو التصرف على طبيعتي».

على خطى والده

لم يطمح كينغ في السير على خطى أبيه يقول: «كنت مجرد ولد عادي. حلمت بأن اصبح طياراً، شرطياً، سائق حافلة ورائد فضاء. عملت في مجال الفنادق سنوات بعدما تخرجت في الجامعة. لكنني سرعان ما أدركت أن هذا ليس العمل الذي أحب مع أنني استمتعت به. أردت أن أؤثر في المجتمع، لا أن أكسب المال فحسب».

وبعدما قرأ عظات والده وخطاباته، تعلم كينغ الكثير عن فلسفة اللاعنف وتمرس في فن الخطابة العامة والتنظيم من خلال نشاطاته في الجامعة والتنسيق لإقامة الاحتفال السنوي بعيد مولد والده في كانون الثاني (يناير)، أي يوم مارتن لوثر كينغ.

يأمل مارتن لوثر كينغ الثالث ألا تغيّر الانتخابات الرئاسية هذه السنة الأوضاع في الولايات المتحدة فحسب، بل في سائر أنحاء العالم أيضاً. يدعم حالياً باراك أوباما ولكن في يوم مارتن لوثر كينغ، حين كان كل مرشح يدّعي أنه يعتنق إرث هذا القائد العظيم، كان ابنه يجتمع مع خصم أوباما الديمقراطي جون إدواردز. فعلى حد تعبير كينغ، إدواردز هو المرشح الوحيد الذي أثار بجدية مسألة الطبقة الدنيا الواسعة في المجتمع الأميركي، أولئك السبعة والثلاثين مليوناً الذين يعيشون الآن في الفقر. كتب في رسالة إلى إدواردز: «صحيح أن التكلم علانية دفاعاً عنهم ليس ملائماً سياسياً، غير أنه التصرف الصائب».

دعم أوباما

بما أن إدواردز صار الآن خارج السباق الرئاسي، قدّم كينغ دعمه الكبير إلى أوباما، أول منافس جدي أسود يدخل السباق إلى البيت الأبيض. ولا شك في أن حصول رجل أسود على فرصة مماثلة هو إحدى النتائج الواضحة لإنجازات الدكتور كينغ. فثمة رجال أعمال سود وقادة دينيون سود وقادة سياسيون سود ألهموا الأميركيين من أصل أفريقي في الولايات المتحدة من قبل، لكن ترشُّح أوباما، «سواء فاز أو خسر، سيوجد مثالاً مختلفاً ونموذجاً آخر للقيادة التي تحاول أن تكون أكثر شمولية. فقدرته على الترشح بشكل جدي هي وحدها مهمة جداً»، على حد تعبير كينغ.

إلا أنه لم يرضَ عن الطريقة التي أُديرت بها الحملة الانتخابية. فتركيز وسائل الإعلام على العظات النارية لقس شيكاغو جيريمايا رايت، المرشد الروحي لأوباما، هو أمر ثانوي. يوضح كينغ هذه المسألة بالقول: «هذه المواضيع لا تضع الخبز على مائدة أحد. لا تساعد الناس في الحصول على العناية الصحية ولا تعلم الأولاد. يجب أن نتطرق إلى مسألة العرق، ولكن لا داعي إلى أن نركز على علاقة أوباما بقس كنيسته. فهذه وسيلة خداع».

فضلاً عن ذلك، أرغمت شبكات التلفزة هذا القس على الاختباء بعدما راحت تعيد بث مقطع من عظة ينادي خلالها: «لعنة الله على أميركا!». ويأسف كينغ لحصول ذلك في «موطن حرية التعبير». ويضيف: «يقول الناس إن القس رايت يكره الولايات المتحدة ويكره البيض. لكن هذا الرجل نفسه أرشد أزواجاً عدة من عرقين مختلفين وعقد قرانهم في كنيسته. أما الآن فيعجز عن الذهاب إلى أي مكان وتهدد منظمة كو كلوكس كلان بتفجير الكنيسة في حال أتى إلى مدينة تامبا في فلوريدا».

قدِم مارتن لوثر كينغ الثالث إلى لندن الأسبوع الماضي ليحضر حدثاً يحيي ذكرى والده نظمته مبادرة Music Matrix التي يمولها مجلس الفنون. وكان الخطاب الذي ألقاه كينغ مليئاً بالدعابة، حتى أنه اقتبس أقوال ريتشارد بريور.

يختلف عالم اليوم كل الاختلاف عن عالم والده، وكما توحي ردة فعل وسائل الإعلام تجاه عظة القس رايت، ما كان هذا العالم الحالي ليرحب بأسلوب أبيه الحاد.

يذكر: «يجب أن تؤدي تعليقات القس رايت إلى الحوار. لا أوافقه الرأي في كل ما قاله، غير أنني سمعت عبارات مماثلة من رجال دين سود آخرين في مختلف أنحاء البلاد ولا أحد منهم يكره الولايات المتحدة. على سبيل المثال، سيُضطر أحد بعد 12 أو 15 سنة إلى توضيح كيف أُصيبت شبه الصحراء الأفريقية بمرض الأيدز. لا أعرف مَن تسبب بهذه الكارثة، لكنني متأكد من أن ثمة أموراً لم تُكشف بعد. لست واثقاً من أن ذلك حدث بسبب عمليات التلقيح والتطعيم، غير أنني سمعت الكثير من الواعظين يطرحون هذه النظرية على أنها احتمال وارد».

نعذر مارتن لوثر كينغ الثالث في حال صدق نظريات المؤامرة. فالكم الهائل من الأسئلة التي لا أجوبة عنها والتي أحاطت بمقتل أبيه أدت إلى الكثير من هذه النظريات، وخصوصاً احتمال أن تكون لموته صلة بهوفر ومكتب التحقيقات الفدرالي. كذلك وُجد شقيق الدكتور كينغ، بعد مشاركته في التحقيق العام حول عملية الاغتيال، غارقاً في منزله في حادث لا تزال عائلته تعتبره مريباً.

مصير كينغ الثالث مدوّن على وثيقة ولادته وينتظر وزوجته الآن طفلتهما الأولى، وحفيدة الدكتور كينغ الأولى، التي ستولد في شهر أيار (مايو). صحيح أنها ستحمل نصف اسم جدها. ولكن ما دامت الولايات المتحدة لم تُعالج بعد مسألة عدم المساواة، سيبقى هذا الإسم مصدر وحي لجيل آخر على الأقل.

في العام 2006، أسس مؤسسة Realizing the Dream، وهي تُعنى بمعالجة مشكلة الفقر، أحد «الشرور الثلاثة» التي حددها الدكتور كينغ قبل مقتله. وبعد مرور 40 سنة، لا تزال هذه الشرور الثلاثة، العنصرية والفقر والتركيز على المسائل العسكرية، متفشية جداً.

غالباً ما تطغى أهم إنجازات الدكتور كينغ، خصوصاً قانون الحقوق المدنية عام 1964 وقانون حق التصويت عام 1965، على معاركه اللاحقة التي خاضها عامي 1967 و1968 ضد الفقر وحرب فيتنام. وبسبب موقفه الأخير هذا، كثُرَ أعداؤه داخل الإدارة، ولا سيما ج. إدغار هوفر رئيس مكتب التحقيقات الفدرالي.

يقول: «حققنا إنجازات كبيرة في مجال العنصرية، إلا أننا تجاهلنا الفقر. أظهر إعصار كاترينا للعالم أن ثمة أميركيين يعيشون في الفقر، على الرغم من ذلك، تتصرف حكومتنا الفدرالية كما لو أن الفقر غير موجود. فإذا أرادت أن تنفق بعض المال، أنفقته على الجيش في أفغانستان والعراق، ولكن إذا صرفناه بدلاً من ذلك على الخدمات الاجتماعية وتطوير الأعمال، فربما لا يعود اقتصادنا قاتماً إلى هذا الحد». ويتابع موضحاً: «لا نزال بعيدين جداً عن حلم أبي بأن ينعم الجميع بالحرية والعدالة والمساواة».

لكن التركيز على المسائل العسكرية بات واسع النطاق. تنطبق مبادئ اللاعنف التي نادى بها الدكتور كينغ على نظرة ولده إلى الحرب على الإرهاب. يقول مارتن لوثر كينغ الثالث: «حظينا بانتباه العالم وتعاطفه وتفهمه بعد أحداث الحادي عشر من ايلول (سبتمبر)، إلا أننا بددناه. أدرك الجميع أن بإمكاننا أن نضرب الأعداء ونهزمهم. فلمَ لم نظهر للعالم أننا، عندما نُهاجم، لا نرد دوماً بالمثل؟ ربما علينا أن نتواصل مع الآخرين ونحاول فهمهم ونبني معهم علاقات. هذا هو المعنى الفعلي للقيادة».