إنطفأ صوت «اشهر مغني أوبرا في العالم» 2007 بوفاة لوتشيانو بافاروتي في مسقط رأسه في مودينا (شمال ايطاليا) عن 71 عاما وكان يعاني سرطاناً في البنكرياس وخضع لعملية جراحية في 2006. لا ادري كيف يكتب شاب من جيلي عن عملاق مثل بافاروتي. لا ادري إن كان الجيل الشبابي في عصر الفضائيات يسمع صاحب الصوت الآتي من بعيد، طالما أننا في زمن «مغنيات الجسد» العابرات للالباب. اشتهر بافاروتي بنبرة صوته المرتفعة التي كانت تملأ الأرجاء من دون جهد. كان معروفاً بحماسته وجاذبيته اللتين برزتا إلى حد كبير سواء غنّى على خشبة المسرح في قاعة الأوبرا قدّم نفسه طاهياً ضيفاً في برنامج تلفزيوني ليلي.

Ad

يقول المدير الموسيقي السابق في الفرقة الموسيقية في لوس أنجليس زوبن ميتا الذي تعاون مع بافاروتي طوال عقود إن كل ما كان يفعله المغني العالمي إنما كان يفعله «دائماً بسعادة عارمة». وبصفته مغنياً أضاف ميتا: «وضَع (بافاروتي) معايير ستلازمنا طوال عقود».

تميّز بافاروتي بشهيته للطعام وتعطشه الى الشهرة، كذلك بالمنديل الكبير الذي كان يلوح به حين يغني في الحفلات الموسيقية ووشاح هرميس الضخم الذي كان يلفه حول خصره العريض. أصبح رمزاً للإغراء رغم أن الأمر قد يبدو غريباً بالنسبة إلى رجل قيل إن وزنه تجاوز مئة وستة وثلاثين كيلوغراماً.

كان بافاروتي أكثر شعبية من أي شخص آخر في عالم الموسيقى الكلاسيكية بشهادة أعداد ضخمة من المعجبين. ابتكر العرض الكبير للموسيقى الكلاسيكية. كان نجم الأوبرا الأول الذي قدم أداء منفرداً على خشبات مسارح لاس فيغاس وحديقة ماديسون سكوير في مدينة نيويورك. غنى مع بلاسيدو دومينغو وخوسيه كاريراس أمام مئات ألوف المعجبين وباعوا ملايين الأسطوانات في رقم خيالي لم يتحقق من قبل في ميدان الموسيقى الكلاسيكية. عُرضت حفلاتهم على شاشات التلفزيون فشاهدها ملايين الناس وحققت إيرادات عالية جداً.

بدايات

أدى بافاروتي أغنية "Nessun dorma” من أوبرا بوتشيني الأخيرة "Turandot” لمناسبة بطولة العالم في كرة القدم عام 1990 وأصبح اللحن معروفاً كأغنية بوب.

لا يمكن أن ينافسه أحد في صوته الموسيقي الطبيعي وقدرته على استمالة الجمهور. في أوائل سبعينات القرن العشرين أصبح معروفاً باسم «ملك النوطات العالية» لقدرته على إطلاق تلك النوطات التي كانت تملأ الأجواء بصفاء جميل.

بين 1965 و1975 شارك مغنية الأوبرا الأسترالية جوان سوذرلاند غالباً كان يملأ خشبة المسرح بحضوره ليلة تلو الأخرى. أعيد تسجيل الأغاني التي أداها في تلك الحقبة في مجموعات جديدة حافظت على شعبيتها.

إلا أن بافاروتي سمح للنجاح بأن يحوله إلى شخصية شبيهة بإلفيس. ألغى حفلات كثيرة في سنواته الأخيرة بسبب تردّي حاله الصحية. عندما كان يؤدي أغانيه، كان يبدو بعيداً عن الموسيقى ويخفي كؤوس الماء وشرائح التفاح حول المسرح ليتمكن من ترطيب حنجرته. مع ذلك، بقي متفوقاً. ازدادت شعبيته رغم من سلسلة إخفاقاته الفنية.

في الواقع، كانت ذروة شهرته قصيرة نسبياً. بلغ الشهرة في أوائل سبعينات القرن العشرين وبحلول 1976 أعرب أندرو بورتر في «نيويوركر» عن خيبة أمله حيال أداء بافاروتي أغنية "I Puritani” لبليني فقال إن «صوته الرخيم الذي كان يُمتعنا به لم يعد كما كان في السابق». بلغت إيرادات فيلم "Yes, Giorgio” الذي أدّاه المغني 18 مليون دولار عام 1982. خاب ظن العديد من المعجبين ببافاروتي. في رواية "the king and I” عام 2006، كتب هربرت بريزلن، مدير أعمال بافاروتي طوال 36 سنة: «قصة لوتشيانو بافاروتي هي قصة شاب بسيط ولطيف تحول إلى نجم مثابر، عنيف وبائس إلى حد ما».

شكا رودولف بينغ الذي كان مدير دار ميتروبوليتان للأوبرا لدى ظهور بافاروتي الأول عام 1968 لمجلة في نيويورك عام 1981 قائلاً إن «رؤية ذلك الوجه القبيح والغبي في كل مكان يثير توتري. كل ذلك غير ضروري أو مشرّف».

جذور

وُلد لوتشيانو بافاروتي في الثاني عشر من أكتوبر عام 1935 في مودينا، إيطاليا، التي يعيش فيها أقل من عشرة آلاف نسمة. هذا المغني الذي لم ينس جذوره قط رغم أسلوب حياته الراقي كان يطلق على نفسه في معظم الأحيان «الفتى الريفي» وحافظ على محل إقامته الأساسي هناك في معظم فترات حياته. أمضى بافاروتي فترة صباه محاطاً بالنساء: والدته أديل، شقيقته غابرييللا، جدته وعماته الكثيرات. اعترف في سيرتيه الذاتيتين بأنه كان مدللاً في طفولته ومحبوباً جداً. كتب: «أحب دائماً أن أكون محاطاً بالنساء وإذا كنّ ذكيات وجميلات فذلك أفضل».

كان والده فرناندو خبازاً يغني في فرقة كورس للهواة وكان يحلم بأن يصبح مغنياً. لكن رغم نشأة بافاروتي في منزل تضج فيه الموسيقى، إلا أن حبه الأول كان لكرة القدم التي قيل إنه كان موهوباً فيها.

لكنه كان يحضر حفلات الأوبرا بانتظام مع والده وكان صديق ميريللا فريني منذ الطفولة. إنها مغنية أوبرا معروفة غنى معها مرات عديدة في وقت لاحق وأصبح مهتماً بالغناء لدى انضمامه إلى كورس والده خلال مراهقته.

بعد معاناته خلال السنوات التي تلت الحرب العالمية الثانية في إيطاليا، خضع لرغبة والديه في البحث عن عمل مربح أكثر من مهنة الغناء. وأملت والدته في إقناعه بخوض مجال المحاسبة لكنه اختار التعليم فدخل المعهد العالي في مودينا وتخرج عام 1955. ليس مفاجئاً أنه سئم من هذا العمل بعد سنتين وقرر احتراف الغناء. أمّن المال لحصص الغناء عبر بيع بوالص التأمين على الحياة وحقق نجاحاً كبيراً بفضل حنكته.

ظهر بافاروتي للمرة الأولى بشكل محترف في مسرحية "La Boheme” لبوتشيني بدور رودولفو الذي أصبح أحد أشهر أدواره وسجله عام 1987 مع قائد الفرقة الموسيقية هربرت فون كارايان وجوقة فيينا الموسيقية. أدى دور رودولفو في ريدجيو إميليا ليس بعيداً عن مودينا بعد منحه إياه لفوزه في المسابقة الغنائية المحلية عام 1961. في العام نفسه تزوج من أدوا فيروني إثر خطوبة دامت ثماني سنوات وأنجبا ثلاث بنات.

كان العام 1965 مرحلةً مهمة في حياة بافاروتي الذي كان آنذاك في الثلاثين ويتمتع بصوت نقي مفعم بحماسة لا تقاوم على المسرح رغم وزنه الثقيل. لفت حجمه الضخم اهتمام مغنية السوبرانو جون ساذرلاند. كانت هذه ذات الحجم الضخم أيضاً تبحث عن تينور لا يبدو صغير الحجم بجانبها. وظهر بافاروتي للمرة الأولى في أميركا الشمالية كريفي محبوب في مسرحية «ليليزير داموريه» لـ»دونيزيتي» في ميامي مع ساذرلاند ثم قام بجولة معها في أوستراليا.

خلال تجربته مع ساذرلاند وزوجها الخبير في غناء الـ»بيل كانتو»، تعلم بافاروتي كيف يسيطر على تنفسه وتقوية صوته. وفي 1966، بلغ بافاروتي أعلى نوطة في الغناء الأوبرالي. لم يكن واثقاً من أنه سيتمكن من بلوغ النوطات التسع العليا الضرورية من أجل الغناء خلال الفصل الأول من أوبرا فكاهية لـ»دونيزيتي» عنوانها «لا فيي دو ريجيمان»، لكن بونينج خدعه. فخلال جلسات التمرين أكد قائد الفرقة الموسيقية للتينور أن الطبقات العليا انتقلت إلى مستوىً منخفض لكن ذلك غير صحيح في الواقع. ونظراً إلى خبرته غير الكافية وقدرته المحدودة على قراءة نوطات الموسيقى، استرخى بافاروتي وتمكن من الوصول إلى الطبقات العليا.

ملك النوطات

شكلت مسألة النوطات العليا أحد الأسباب التي جعلته ينفصل عن منافسه الرئيسي في الأوبرا دومينغو. لكن تنافسهما كان إلى حد ما مصطنعاً إذ أن كلاً منهما كان نقيض الآخر تقريباً. فالتينور الإسباني دومينغو هو بالأحرى مغن مسرحي لديه اهتمام فكري ناشط إلى حد بعيد. بدأ مسيرته كمغن أوبرالي وعمل جاهداً لنقل صوته إلى طبقة التينور.

ما إن حاز بافاروتي لقب «ملك النوطات العالية» حتى طلب للغناء في كل من أوروبا وأميركا. افتتح موسم «روم أوبرا» بين عامي 1966 و1967، وكان ظهوره الأول في ميلان في ذلك الخريف في دار أوبرا لا سكالا». طلب قائد الفرقة الموسيقية الأشهر في أوروبا آنذاك، فون كارايان، إليه الغناء في قداس «ريكوييم» لـ»فيردي» في دار لا سكالا. وبعد وقت قصير أدى بافاروتي المسرحية الأوبرالية «لا بويم» للمرة الأولى في دار أوبرا سان فرانسيسكو عام 1967 كذلك ظهر للمرة الأولى في دار أوبرا ميتروبوليتان في المسرحية عينها عام 1968.

وعلى مر السنوات الأربع التالية تنامت شهرة التينور في عالم الأوبرا بشكل ثابت. أطلقت أسطوانته الأولى التي أدى فيها أغاني منفرداً في 1968 إتفاق تسجيل حصري مع شركة «ديكا ريكوردز» الذي استمر خلال سنوات عمله فباشر بتسجيل سلسلة واسعة من الأغاني الأوبرالية مع ساذرلاند، بدءاً من «ليليزير» التي حققت نجاحاً باهراًَ الواحدة تلو الأخرى.

من ناحية أخرى، سطع نجمه بعد ظهوره في 1972 في دار أوبرا الميتروبوليتان في إنتاج جديد لمسرحية «ريجيمان» التي شاركت فيها ساذرلاند. ورغم الفواصل بين عروض السوبرانو والممثلين الاستثنائيين، تلقى بافاروتي 17 نداء في سابقة هي الأولى من نوعها للعودة إلى المسرح.

تمثيل وحفلات

في 1977 ظهر بافاروتي في البث التلفزيوني الأول لعرض «لايف فروم ذي ميت» مع السوبرانو الإيطالي ريناتا سكوتو في مسرحية «لا بويم». لم يسبق لجمهور واسع كهذا أن شهد أداءً أوبرالياً منفرداً وتبين أن الكاميرا أحبت بافاروتي.

قبل وقت طويل، وبفضل بريزلن، بيعت بطاقات حفلات بافاروتي في «ماديسون سكوير غاردن» جاذبةً مئات ألوف المعجبين المتحمسين لحفلات «سنترال بارك». ثم سافر هذا الأخير إلى هوليوود للتمثيل في «يس، جيروجيو» وظهر في برنامج «ذي تونايت شو» مع جوني كارسون وشكل موضوعاً لسلسلة لا متناهية من صفحات مجلات المشاهير تحفظ إعجاباً له وسجل أغاني بوب إيطالية عاطفية وعدداً من الأغاني لعيد الميلاد حققت نجاحاً ساحقاً وأدى أغنية ثنائية مع فرانك سيناترا.

وفي 1986 زار الصين وأقام حفلاً موسيقياً في قاعة «غرايت هول أوف ذا بيبول» في بيكين للاحتفال بمرور 25 عاماً على ظهوره المهني على خشبة المسرح.

وبفضل حفل «ثري تينورز» اعتلى بافاروتي درجةً جديدة في سلم الشهرة. اتفق ودومنيغو على الاحتفال بشفاء زميلهم الأصغر سناً كاريراس من داء اللوكيميا في حفل خيري في «باسذ أوف كركلا» في روما كجزء من احتفالات كأس العالم في 1990.

اعتبر العرض حدثاً فريداً من نوعه فبيعت ملايين الإسطوانات منه وهي ظاهرة جديدة في عالم الموسيقى الكلاسيكية. سرعان ما استثمر بافاروتي النجاح الشعبي من خلال إطلاق أسطوانة لعيد الميلاد تحت عنوان «أو هولي نايت» جعلت منه المغني الكلاسيكي الأول الذي يترأس قائمة أغاني البوب البريطانية. حافظت الأسطوانة على مركزها الأول لخمسة أسابيع.

عندما أدرك «مغنو التينور الثلاثة» الأموال الهائلة التي يمكن أن يجنوها أعادوا إحياء هذا الحفل في 1992 في دودجر ستاديوم في لوس أنجلس، لكن تلك المرة كربح خاص لهم. وعلى شاشة التلفزيون استقطب الحدث 1.5 مليار مشاهد عبر العالم وبدأ الثلاثي يكرر العرض أنّى ذهب كلما سمحت لهم برامج مغنيه الثلاثة بذلك.

السنوات الاخيرة

وظل بافاروتي يظهر في الحدث الأوبرالي بين فترة وأخرى خلال التسعينات، لكنه دخل قائمة أعظم مغني البوب من خلال مساهماته. قدم حفلاته الخيرية السنوية الخاصة تحت عنوان «بافاروتي إند فراندز»، مودينا في 1993. استقبل ضيفاً مستبعداً من مغني البوب بما في ذلك جون بون جوفي، جايمس براونن بوبو، إيريك كلابتون، براين إينو، بي بي كينغ، ذا سبايس غورلز وستينغ. كما جمع الأموال لمسائل دولية وكسب أصدقاءً جدداً من الوسط الفني وخارجه.

إلا أن النظريات الجدلية لاحقته خارج المسرح كذلك عانى مشاكل خاصة بالضرائب في ألمانيا وكلفته إيطاليا ملايين الدولارات. هجر زوجته بعد 37 عاماً من أجل سكرتيرته، نيكوليتا مانتوفاني، التي تصغره بـ35 عاماً، وتلا ذلك طلاق علني. في 2002 أنجبت نيكوليتا توأماً واحد منهما ولد ميتاً. وعقد القرن في السنة التالية.

في تلك الأثناء أعلن بافاروتي أخيراً تقاعده في 2001 في العيد الأربعين بظهوره في مسرحية «بويم» في ريجيو إيميليا.

إلا أنه تمكن من المشاركة في مسرحية «توسكا» الأوبرالية في كوفنت غاردن في لندن في العام التالي. أدى المسرحية مرةً أخرى في برلين ثم استجمع قوته من أجل العودة إلى دار أوبرا ميتروبوليتان في مارس 2004 لثلاثة عروض نهائية لمسرحية «توكساس».

في إبريل 2005 بدأ جولة وداعية عالمية في بريتوريا، جنوب إفريقيا. لكن في السادس من يوليو من السنة التالية، أعلن بافاروتي أنه خضع لعملية جراحية لاستئصال ورم خبيث من بنكرياسه وأنه سيرجئ ما تبقى من حفلاته الوداعية لعام 2006 إلى 2007.

لا نستطيع الا ان نثني على صوت بافاورتي إذ اصبح جزءاً من يومياتنا وذاكرتنا. قد لا يقصد بعضنا شراء ألبوم له لكن يصادف أن نسمعه في محطة او نشاهده على شاشة التلفزيون. انه مثل فيروز وام كلثوم ورواد الغناء العمالقة. يعتبر الاسم الأشهر في عالم الموسيقى الكلاسيكية والغناء الأوبرالي والأسباب كثيرة، منها فرادة صوته وقدرته على تطويعه وأداؤه المتقن وحضوره المسرحي والإنساني المعبر وقدرته على الترويج للذات التي يرافقها اهتمام شبه صوفي بصوته.

قدم بافاروتي عددا كبيراً من الحفلات (مئة في السنة الواحدة) مع فنانين كبار ايضا بينهم مغنيات الأوبرا مونتسيرات كاباييه وجون ساذرلاند وكيري تي كاناوا. في يوليو/ تموز 1998 شكل بافاروتي مع مغنيي التينور المشهورين الآخرين خوسيه كاريراس وبلاسيدو دومينغو ثلاثياً رائعاً بُثّت من برج ايفل. لم يتردد بافاروتي الذي كان قادراً على أداء كل الأنواع من أغاني نابولي الشعبية الى الاوبرا والأغاني الخفيفة. وشارك مغنين أمثال ستينغ وماريا كاري وجو كوكر دفاعا عن قضايا انسانية. غير آبه بالانتقادات، حقق بافاروتي شهرة كبيرة تجاوزت حدود ايطاليا واوروبا بعدما غنى اوبرا «البوهيمية» لبوتشيني وكانت العمل الاوبرالي المفضل لديه. أدى في كل برامج حفلاته مقاطع من اشهر اوبرات العالم منذ اكثر من ثلاثين عاماً، من دونيتسيتي الى بيلليني فروسيني وفيردي.

بافاروتي المتواضع والمخملي قرر ذات مرة أن يختار المغني الصيني داي يو تشيانغ كأول تلميذ له من آسيا. كان داي ترك انطباعا عميقا لدى بافاروتي في يونيو 2001 حين قدم المغني الراحل مع بلاسيدو دومينغو وخوسيه كاريراس حفلا موسيقيا معا للمرة الأولى في الصين وكان داي بين المغنين الصينيين الستة الذين شاركوا في الحفل الذي أحياه المغنون الثلاثة.

صدم بافاروتي لدى قراءته مقالاً في مجلة «ديفا أي دونا» الإيطالية جاء فيه على لسان ابنته أنه «يعلم بإقتراب موته»، لكنه ضحك في النهاية بعد قراءة ما ورد في الصحيفة. قالت ابنته للمجلة «إن والدها على علم باقتراب موعد وفاته ويتحدث دائماً عن رغبته في لقاء والدَيه مجدداً والعثور على السلام النهائي». ومع ذلك لجأ إلى المعالجة الدينية الايطالية ريتا كوتولو لمساعدته على الشفاء تماما من سرطان البنكرياس. وكانت اعلنت صحيفة «تايمز» البريطانية، أن كوتولو المعروفة بالحرارة الهائلة التي تنبثق من يديها تزور دارة بافاروتي المغني لإخضاعه لجلسات متكررة.

من سمات بافاروتي انه كان يتحدث دوماً عن اعتزاله القريب، أو يعلن اعتزاله وسرعان ما يتراجع عن قراره. يبدو ان لوثة الغناء اقوى من الاعتزال، لنقل انها مثل لوثة الكتابة فنادراً ما يعلن الكتاب اعتزالهم رغم نضوب الافكار لديهم. يريدون الترفع عن موت موهبهتم ذات لحظة وينتظرون امتلاء مخزون المخيلة. سبق لبافاروتي أن أعلن في 13 مارس 2004 أن الدور الرمزي الذي جسد فيه شخصية الرسام ماريو كافارادوسي في أوبرا «توسكا» على مسرح «متروبوليتان» الأوبرالي في نيويورك هو خاتمة أدواره المسرحية الأوبرالية. يعتبر «التينور» ذاك الدور «الأكثر رهبة». اضطر إلى العمل طوال عشر سنين لتطويع صوته قبل أدائه للمرة الأولى عام 1978. لم يكن ذاك الإعلان وحيداً إذ أعلن أن عام 2002 سيكون عام توقفه عن الغناء الأوبرالي لاحقاً وأعلن أنه سيتقاعد في 12 أكتوبر 2005 الموافق عيد ميلاده السبعين. إلا أنه، مرة أخرى، تراجع عن قراره باعتبار أن حفلاته الوداعية تلك تمتد إلى ما بعد عيده. وقبل وفاته بمدة كان يعتزم القيام بجولة جديدة لكنه توفي. هكذا كان يريد الغناء حتى الموت، يذكرنا بشاعر قال انه اذ لم يكتب يموت، وبافاروتي إن لم يغن يموت. لم يوقفه التعب، لم يثنه النقد عن تقديم حفلات في مدن العالم. اصراره على تقديم الحفلات جعل أحد نقاد صحيفة «نيويورك تايمز» يصفه بـ»النسخة الرديئة عن ذاته» وبأن «إصراره على الغناء أمر محرج».

قال مغني الأوبرا الاسباني المشهور بلاسيدو دومينغو ان «الأوبرا بالنسبة إلى الكثيرين تبقى فنا غامضا يثير الفضول والغرابة في حين يجب أن تكون جزءا من حياتنا اليومية».

بافاروتي أيضا سر.