في السادس والعشرين من نوفمبر 1783، كان الكونغرس الأميركي في حالة انعقاد مستمرة لمدة تسعة أشهر تقريباً في مجلس الولاية في أنابوليس، وفي 1786 دُعيت وفود الولايات إلى اللقاء في المدينة من أجل التوصّل إلى اتّفاق حول معايير أكثر مناسبة للتجارة، ولمْ يلبّ الدعوة في البداية إلاّ خمس ولايات، إلاّ أنها توصّلت إلى ما دُعِي بمعاهدة أنابوليس التي لا علاقة لها بالهدف الذي توافد الناس من أجله، ثم تحوّلت خلال عام إلى ما دُعِي باسم «بنود الاتحاد»، التي كانت مسوّدة أولية لدستور الولايات المتحدة، القائم حتى الآن. وأنابوليس هذه يسكنها حالياً أقلّ من أربعين ألف نسمة، إلا أنها اجتازت طريقاً طويلاً منذ تأسست كملجأ للطهرانيين المنفيين، وانتعشت على تجارة العبيد، إلى أن أصبحت تعتمد في العصر الحاضر على الاستجمام من خلال اليخوت الفخمة.وفي ما سبق ذكره، نقرأ في الفنجان المقلوب، لعلّنا نرى شيئاً: فمؤتمر السلام الدولي الأخير قد انعقد في المدينة نفسها، من أجل هدف معلن منذ فترة طويلة وهو التوصّل إلى وثيقة يمكن البناء عليها بين الفلسطينيين والإسرائيليين، تهدف إلى سلام نهائي بينهما وتتأسس على مبدأ قيام دولتين كما جرى التوضيح مع شروح إضافية أحياناً وتحفّظات أحياناً أخرى، ولقد حضرته «الولايات» كلّها، وإن كانت -بعضها أو جميعها- ليست وفوداً تمثّل شعوبها، وربما حتى بمستوى التمثيل الذي كانت عليه تلك الوفود الخمسة التي نزلت في أنابوليس منذ قرنين ونصف تقريباً.حدث الأمر في ظلّ مشكلات معوّقة، كما هي العادة لدينا، بل إن تلك المشكلات الظلال قد تكون أقوى في وجودها المادي الملموس من الموضوع الأساس.فهنالك انقسام حاد في فلسطين، وصل إلى انفصال وتجزئة للكيان القائم الذي هو مشروع وبذرة كيان وحسب، فقامت «حماس» بانقلاب عنيف، بسطت فيه أعلامها الخضراء على غزة، واستنكرت مؤتمر أنابوليس واعتبرته كأنه لم يكن، فجاء الوفد الفلسطيني بأرجل رفيعة، أكثر قابلية للضغوط وتعطّش للدعم في صراعه الداخلي، وبالتالي، قد تتحمّل «حماس» نفسها مسؤولية كبيرة في ضحالة النتائج الإيجابية، رغم الشعارات الطنّانة وبلاغات الطهارة والالتزام بالثوابت.وهنالك مشكلة مفصلية في لبنان، انعقد المؤتمر في ذروتها، بعد أربعة أيام من فراغ في رئاسة الجمهورية، وخلل في التوازن السياسي الاجتماعي قد لا تحمد عقباه في ما يأتي من الأيام. يُقال إن الأميركيين أرادوا أن تكون المسألة وتعقيداتها من عوامل إنجاح أهدافها في المؤتمر، أي أنها أرادت أن تلعب بالنار لإنضاج الطبخة الأكثر أهمية لديها، وهذا خطر حالياً، وقد يُعتبر غباءً في ما بعد. في الوقت نفسه، لو افترضنا أن اللبنانيين قادرون على تجاوز الأزمة بأنفسهم، لقلنا إنهم مسؤولون أيضاً عن الفشل، الذي ربما يكون له انعكاس على ما يُطرح في مسألة اللاجئين التي لا تقلّ حساسيةُ مسألتِها لدى اللبنانيين عن أهلها، وربما على تأخير الانسحاب من مزارع شبعا أيضاً.وهنالك ثالثاً أزمة النظام العربي وهلهلته الفاضحة، والانقسام الحاد بين بؤرته الجديدة التي يتبلور حولها من جهة وسورية خصوصاً من جهة أخرى. بلغ هذا الانقسام مراحل متقدّمة على جبهة لبنان الذي يستمدّ النظام السوري حماسته للمنازلة فيها من وزن التاريخ والجغرافيا القديم والحديث، ومن القلق والتوتر والإحساس بالخطر الداهم.لا شكّ في أن جورج بوش -وطوني بلير!- يحلم بتحقيق خطوة جذرية نحو السلام في الشرق الأوسط قبل انتهاء ولايته، فيؤمّن من خلالها الأمن لإسرائيل بالطبع، مع السيطرة على شبكة نفط العالم الرئيسة، وربّما أيضاً إعادة الاعتبار إلى مشروع نشر الديموقراطية الذي تردّت أحواله إلى حدٍّ كبير، لكن هذا الحلم لا يتعارض مع الأهداف المباشرة الأصغر، من مثل دعم السلطة الفلسطينية في وجه الأخطار التي تحيق بها، وتحقيق انتقالة هامّة في تحوّلات الحالة اللبنانية تضيف شيئاً إلى الخروج العسكري السوري وتعزّز استقرار تلك الحالة وتوازنها المُحدث، الأمر الذي سوف يدعم تطوّرات الوضع في العراق ويزيد في ضمانات النجاح هناك، وربما كان هذا الأكثر أهمية الآن.هنالك حلم عربي في تحقيق شيء أفضل على مسار السلام والاستقرار والتحديث، يشكّل مؤتمر أنابوليس مرتكزاً مهزوزاً له، لكن هنالك أهداف أخرى تتعلّق بتأمين الجميع لسلطاتهم واستمرارهم على حالهم، وتقوية فرصهم أمام غدر الزمن، من جهة إسرائيل وإيران، ومن جهة الولايات المتحدة نفسها أيضاً.وما بين الحلم والواقع، قد تتردّى الوقائع... على نسق تحولاّت أنابوليس من طور التأسيس الراسخ، إلى طور اليخوت والسياحة والمتعة العابرة. * كاتب سوري
مقالات
أنابوليس بين قطع الأنفاس واستردادها
06-12-2007