جملة ما تحقق لا يعدو أن يكون خسارات متبادلة أفسحت المجال لولادة قوة ثالثة يمثلها قائد الجيش اللبناني اليوم، صار يصعب على الطرفين شطبها أو تجاهلها، أو الاستخفاف بقدراتها. والأرجح أن مصدر إجماع اللبنانيين على ترئيس قائد الجيش يعود، في أصله وأسبابه، إلى توازن المآزق بين القوتين المتصارعتين وحاجتهما معاً إلى قوة تستطيع الفصل بين الطرفين. يعيش لبنان واللبنانيون موجات متعاقبة من التفاؤل والتشاؤم من دون ضوابط من أي نوع. ففي اليوم الواحد تضرب موجة التفاؤل ضربتها وتبلغ ذروتها ظهراً ثم ما تلبث أن تجبّها موجة تشاؤم مسائية. لتعود وتنحسر هي الأخرى مفسحة في المجال لموجة تفاؤل جديدة. الثابت في هذا كله، أن الإنفجار لم يحصل في البلد حتى الآن، فالقدر التي تغلي ماؤها ما زالت تحتوي بعض المياه التي تمنع الانفجار. والأرجح أن أسباب الانفجار كثيرة، لكن ما يمنعها عاملان مؤثران.أول هذين العاملين خارجي. وقد بات محسوماً أن الدول المتدخلة في الأزمة اللبنانية، التي تشكل ميدان اختبار لأزمات المنطقة، تؤجل الدخول في مواجهات مفتوحة في ما بينها ولا تريد للأزمة اللبنانية أن تكون سبباً لإشعال شرارة في حطب المنطقة اليابس. فليس ثمة دولة بين الدول هذه من يجد أن آوان المواجهة النهائية قد بات وشيكاً، وأن الاستعدادات استكملت ولم يبق إلا ساعة التنفيذ. لكن هذا اليقين الإقليمي والدولي لا يمنع الأطراف المتدخلة في الأزمة اللبنانية من التلاعب بمصير الكيان اللبناني وعرقلة التسويات الممكنة أملاً في تحقيق مكاسب أكبر. وفي هذا المجال بدا أن القراءة السورية لنتائج مؤتمر «أنابوليس» بالغت في حساب حصادها. إذ أظهر الأداء السوري في الأسبوعين الماضيين ثقةً مفرطةً بإنجاز كبير، تمثل في خرق المبادرة الفرنسية وايصالها إلى حائط مسدود. مما أشعر الإدراة السورية بعد تحقق هذا الإنجاز، أن الظروف مواتية لها لاستعادة هيمنتها الكاملة على لبنان، وإجبار المجتمع الدولي على الاعتراف بشرعية هذه الهيمنة، نظراً لاستحالة انزال الهزيمة بالقوى الموالية لسوريا في لبنان، مثلما عبر نائب الرئيس السوري السيد فاروق الشرع، حين أعلن أن سوريا اليوم أقوى في لبنان مما كانت عليه يوم كان جيشها مرابطاً على الأرض اللبنانية. لكن الرد الأميركي السريع والحاسم لجم الاندفاعة السورية هذه، مما جعل موجة التفاؤل في إنجاز تسوية في ما يخص أزمة رئاسة الجمهورية اللبنانية تضرب لبنان مجدداً في نهاية الأسبوع الماضي لتعقبها موجة أخرى من التشاؤم بعد تأجيل جلسة المجلس النيابي إلى الثاني والعشرين من الشهر الجاري. العامل الثاني داخلي، ويتصل بصعوبة إنجاز انتصار فئة على أخرى في ظل توازن القوى السياسي والشعبي بين القوتين المتخاصمتين. وهذا التوازن في القوى أنتج نوعاً من التوزان في المآزق، فلا المعارضة قادرة على إسقاط السلطة الحاكمة ولا الأكثرية الحاكمة قادرة على كسر شوكة المعارضة. وقد مضى على هذه المنازلة الحامية ما يقارب العامين من دون أن يحقق أي طرف نصراً كاسحاً على الطرف الآخر. بل إن جملة ما تحقق لا يعدو أن يكون خسارات متبادلة أفسحت المجال لولادة قوة ثالثة يمثلها قائد الجيش اللبناني اليوم، صار يصعب على الطرفين شطبها أو تجاهلها، او الاستخفاف بقدراتها. والأرجح أن مصدر إجماع اللبنانيين على ترئيس قائد الجيش يعود، في أصله وأسبابه، إلى توازن المآزق بين القوتين المتصارعتين وحاجتهما معاً إلى قوة تستطيع الفصل بين الطرفين. لكن إطالة أمد الفراغ الرئاسي في لبنان لا بد أن يتغذى من الاضطراب الأمني. فالبلاد لا تعيش في عطلة في انتظار تبلور مواقف خارجية، ولهذا فإن الاضطراب الأمني يصبح قدراً مقدراً كلما استطال أمد الفراغ. وحيث إن القوة الثالثة التي يمثلها قائد الجيش مولجة بالفصل بين الطرفين فإن أي اضطراب أمني يأكل من حصتها في «جبنة» السلطة اللبنانية. ولم يعد خافياً أن الجيش اللبناني يشعر اليوم كما لو أنه يخضع لعملية استنزاف من الطرفين، في وقت لا يستطيع معه أن يرد غائلة الأخطار عنه، ذلك أن هذه القوى تتغذى من شرايين خارجية ذات موارد لا تُحصى. في حين أن الجيش يتغذى أولاً وأخيراً من شريان الدولة الجامعة التي باتت اليوم مهددة في وجودها. الخلاصة... أن الجيش يكون قوياً وقادراً على لجم الصراعات إذا ما كانت الصراعات محلية الطابع، لكنها ما إن تصبح خارجية الطابع والمنشأ والأهداف حتى يصبح عاجزاً عن مواجهتها، ويكاد يصير ضحيتها النموذجية. وعلى هذا يمكن قراءة عملية اغتيال مدير العمليات في الجيش اللبناني اللواء الركن فرانسوا الحاج، بوصفها خارجية مئة بالمئة، لأن الضحية لبنانية مئة بالمئة. * كاتب لبناني
مقالات
حافة الهاوية
19-12-2007