بفتح شارع ليدرا تمر من شارع رئيسي في سوق قديم تقسمه إدارة جوازات صغيرة عازلة بين منطقتين لوطن واحد، وحالما تمر منهما تواصل مشيك في بازار قديم فتذكرك الأصوات هناك باسطنبول، ولكنك حالما تسمع نغمة يونانية بلكنة قبرصية تصحو حواسك لتكتشف أنك في نيقوسيا المقسمة. كتب القدر على نيقوسيا أن تنكمش دائما وتشهد انهيارات مؤقتة، وكلما تحولت إلى عالم أصغر انبعثت رغبة النيقوسيين إلى استنهاضها من أجل عالم أفضل. ففي حقب تاريخية امتدت إلى 1050 سنة قبل الميلاد كانت نيقوسيا مدينة ومملكة ضمن عشر ممالك عرفتها قبرص، ولكن الهيلنيين (قدماء الإغريق) عندما دخلوا الجزيرة سنة 330 بعد الميلاد حولوها إلى قرية صغيرة منسية في الخريطة.ومثل كل التواريخ الإنسانية المتحركة، كان على نيقوسيا أن تستبدل اسم حضارتها لكي يبقى عنوانا لأحد أبرز الشوارع الرئيسة في العاصمة، فقد كان ليدروس-ليدرا هو الاسم القديم لها والذي تحول لاحقا إلى ليفكوسا-ليفكوثوتا وهي عبارة تعني الآلهة البيضاء. وكان للاستعمار البريطاني نصيبه في تسمية الأمكنة وفق لغته فحملت لفظا خاطئا حين أطلقوا عليها «نيقوسيا» مما حدا بالقبارصة قبل سنوات إلى إعادة كتابة اسمها التاريخي القديم بمنطوقهم الصحيح «ليفكوشيا». فلماذا تدافع القبارصة في الثالث من إبريل نحو شارعهم القديم وحنينهم للبازار الواقع في النصف الآخر من الشارع؟ وهو النصف الذي شهد التقسيم لمرات، إذ ظلت العوازل الترابية وحراب الجنود الأتراك فاصلا بين الطرفين بمساحة 70 مترا، يقف فيها جنود الأمم المتحدة ليفصلوا بين الطرفين المتنازعين، وقد كانت هذه المنطقة الضيقة الفاصلة بين الجنود منطقة محايدة مدة طويلة قاربت الأربعين عاما، هي عمر الغزو التركي للجزيرة عام 1974، فلم تكن في ذاكرة الجيل الجديد والقديم إلا قصص عن معمار ودكاكين الجزء المكمل الممتد من شارع ليدرا، حيث احتفظت نيقوسيا الجنوبية بجزء من الشارع، فصارت المحال التجارية وأصحابها والتسوق تعيش حالة الحنين لشارعها المقسم في العاصمة وقلبها. وفي الحقيقة فإن نيقوسيا شهدت أول تقسيم لها عام 1956 في الفترة الاستعمارية، وبعد الاستقلال حدثت نزاعات إثنية بين الطائفتين عام 1963 مما استدعى لتقسيم المدينة بينهما، فبدأ شارع ليدرا رحلة الأسوار والأسلاك الشائكة، ثم جاء الوجع الحقيقي لتقسيم الجزيرة نهائيا مع الغزو. وخلال السنوات الأخيرة بدأت المفاوضات بين الشطرين تتحسن فترة وتتجمد فترة أخرى، وعلى ضوء تلك المباحثات تم فتح نقاط تفتيش بلغت خمس نقاط، بعضها يتم استخدامه مشيا وبعضها بالسيارات، ولكن اثنتين من الخمس لا يسمح للقبارصة اليونانيين باستخدامهما إنما يمر من القبارصة الأتراك للجنوب من أجل العمل.وبفتح شارع ليدرا تصبح نقطة التفتيش السادسة في الجزيرة والتي يتم دخولها مشيا على الأقدام، وكأنك تمر من شارع رئيسي في سوق قديم تقسمه إدارة جوازات صغيرة عازلة بين منطقتين لوطن واحد، وحالما تمر منهما تواصل مشيك في بازار قديم فتذكرك الأصوات هناك باسطنبول، ولكنك حالما تسمع نغمة يونانية بلكنة قبرصية تصحو حواسك لتكتشف أنك في نيقوسيا المقسمة وقد استعادت جزء من حلمها وحنينها، ولكن الفرح لم يكتمل بوجود عازل حدودي يقلقك، بالرغم من وجود تحركات مستجدة من الحكومة المنتخبة الجديدة، التي استأنفت الحوار، فكانت خطوة حسن النية بين الطرفين هو فتح العاصمة كتعبير رمزي وسياسي لوحدة الجزيرة.فمن خلال هذا التحرك العملي، تضع المباحثات أقدامها نحو ملفات ساخنة قادمة، وقد تم الاتفاق بين الجانبين على العودة للتباحث في يونيو، بحيث تستعد اللجان الفنية لمناقشة كل الأمور التفصيلية للجزيرة، وقد طلب القبارصة اليونانيون من نظيرهم القبرصي التركي، بعض الشروط أثناء فتح المعابر ومن ضمنها ألا يوجد أي مظهر مسلح للجنود الأتراك عند نقاط التفتيش، وهذا ما أزعج العسكر في أنقرة، فقد جاء أثناء تدشين احتفال بلديات العاصمة ببالونات وردية تحلق في الفضاء كتعبير عن تهاوي جدار العزل في الأرض كبقايا جدار قديم اصطناعي، وهو بداية شرخ لنهاية جدار كبير في الجزيرة، حيث هناك رغبة في إخلاء الجزيرة من وجود القواعد العسكرية وكل مظاهر الاحتلال.في هذه اللحظة كان يقف عند نقطة التفتيش رئيس الأركان التركي ياسر بويوكنيت ببدلته المدنية، معلنا حزنه بإزاحة الجيش بضعة أمتار من نقطة التفتيش قائلا: «إننا باقون في الجزيرة حتى إن تم حل المشكلة!!»، فلم يسعد ذلك التصريح ساسة الشطرين، بل انزعج السلك الدبلوماسي الذي كان متفائلا بتلك الخطوة الإيجابية، متمنين أن تتم تهيئة بيئة سياسية ملائمة من أجل حوار أفضل وسلام دائم ووحدة كاملة للجزيرة المقسمة.في مناخ الفرح الغامر المشوب بتشاؤم حذر من انتكاسات محتملة، تذكرت نصا كتبه شخص مجهول فوق أحد جدران نيقوسيا يقول فيه: «نيقوسيا لا أحتملك فأنت مقسمة» ثم وقعه بعبارة «المحبطون»، فهل ينفض المحبطون في نيقوسيا وشارع البازار القديم عن روحهما اليأس والنزاع والكراهية برؤية جديدة للمستقبل من أجل العيش المشترك لوطن موحد. * كاتب بحريني
مقالات
الحنين إلى بازار نيقوسيا القديم
10-04-2008