لا يبدو ممكناً لمنطقة الخليج التي تعتبر ذات أهمية استثنائية للأمن والاقتصاد العالميين - تصدّر نصف استهلاك العالم من النفط - الخروج عن السياق الدولي العام، من أجل منطقة تجارة حرة يبلغ سقفها الأعلى أربعة مليارات دولار، بافتراض استحواذ دول الخليج العربية على صادرات إيران غير النفطية كلها.

Ad

كشف قرار دول مجلس التعاون الخليجي بالموافقة على دراسة عرض إيراني بإقامة منطقة تجارة حرة بين ضفتي الخليج، عن قدرة ضفة الخليج العربية على استيعاب عميق للتشابك الحاصل بين حقائق الجغرافيا من ناحية وموازين السياسة في المنطقة والعالم من ناحية أخرى.

وضع مجلس التعاون الخليجي، بموافقته على دراسة العرض الإيراني، المقولة الانطلاقية في توصيف العلاقة بين السياسة والاقتصاد، باعتبارهما وجهين لعملة واحدة، على محك الاختبار والتأويل. وإذ تشهد العلاقات الثنائية بين الدول أنماطاً مختلفة يسود في بعضها الطابع الاقتصادي على غرار النموذج الصيني - الأميركي، وفي بعضها الآخر الطابع السياسي، وهو ما ينطبق بامتياز على الحالة الإيرانية - الخليجية، لكن من دون أن يعني ذلك إلغاء أحد وجهي العملة للوجه الآخر. حسناً فعلت الدول الخليجية بدراسة العرض وعدم رفضه من البداية والأساس، لأن الجوار الجغرافي له مقتضياته وحسناته، فضلاً عن محاذيره وشروطه.

كما أن التسرع في قبول العرض سيعني إغفال الصراع المحتدم بين العالم الغربي بقيادة الولايات المتحدة الأميركية وإيران، وهو ما من شأنه تعريض المكانة الاستراتيجية لمجلس التعاون الخليجي في نسق النظام الدولي للاهتزاز.

تقدمت إيران اتساقاً مع مصالحها الوطنية بعرض إقامة منطقة تجارة حرة كإطار لشراكة اقتصادية بينها وبين دول الخليج العربية، فطهران التي تستبق مفاعيل الحصار الاقتصادي الدولي المضروب عليها بمقتضى القرارين 1737 و1747 بهذا الاقتراح، تتوجس من صدور قرار أممي ثالث يرفع سقف الحصار ويزيد من الضغوط عليها، وهو عرض مفهوم ومشروع في الوقت ذاته، لكن حسابات دول الخليج العربية على الرغم من رغبتها في حسن الجوار والاستقرار في كامل الخليج، لا تتطابق بالضرورة مع الحسابات الإيرانية لاعتبارات عدة؛ أول هذه الاعتبارات يتعلق بالتوقيت، إذ لا تعاني دول الخليج أي شكل من أشكال الحصار الاقتصادي، وهي وإن كانت تريد مد يدها لإيران، إلا أنها لا ترغب أيضاً في الخروج بموافقة متسرعة قد يتم الرجوع عنها لاحقاً بما قد يفسر لاحقاً على أنه انتكاسة للعلاقات بينها وبين إيران أو استجابة لضغوط دولية. وبما أن عامل الوقت ليس ضاغطاً على ضفة الخليج العربية، فليس هناك من مبرر سياسي أو اقتصادي لجعله كذلك. أما ثاني الاعتبارات فهو اقتصادي صرف، إذ أن تشابه أنماط الإنتاج بين ضفتي الخليج – كلاهما يعتمد على النفط كسلعة إنتاج وتصدير رئيسية - يسحب من منطقة التجارة الحرة بين ضفتي الخليج أفقها الاقتصادي القابل للتحقق. وإن كان صحيحاً أن إيران قد نجحت في رفع حجم صادراتها غير النفطية إلى مستوى أربعة مليارات دولار سنوياً، إلا أن ذلك الحجم غير كاف لتقوم منطقة التجارة الحرة على أساسه، فالقدرة الشرائية لدول الخليج العربية تفوق ذلك المستوى بمراحل كثيرة.

تحتل الاعتبارات اقتصادية المركز الثالث أيضاً لأن جزءاً كبيراً من واردات إيران السلعية والخدمية تتم مبادلته عبر دولة الإمارات العربية المتحدة وبالتحديد من خلال إمارة دبي، ولكن هذه العلاقات الاقتصادية الممتازة بين إيران وإمارة دبي لا يمكن تعميمها – موضوعياً - على كامل العلاقات بين إيران ودول الخليج العربية. فمنطقة التجارة الحرة تشترط نظرياً إلغاء القيود غير الجمركية مثل القيود الإدارية والقيود الكمية، كما تتطلب توحيد المواصفات الفنية بين الدول المنضوية في الاتفاق، فضلاً عن تقليص القيود النقدية بين هذه الدول. والشرط الأخير يتطلب وقتاً طويلاً كي يتحقق بسبب اختلاف السياسات النقدية بين ضفتي الخليج اختلافاً ظاهراً، فسعر صرف العملات الخليجية العربية ثابت ومستقر على ارتباط بعملة التبادل الدولية أي الدولار الأميركي، في حين أن التومان الإيراني يدار من الدولة ولا يتمتع بالاستقرار ذاته، فضلاً عن عدم ارتباطه بعملات دولية محددة.

وتلعب المحددات الديموغرافية والعسكرية دوراً رابعاً، في التأني بالموافقة على المبادرة الإيرانية بسبب الاختلال السكاني والعسكري الواضح بين الضفتين، الذي يكبح موضوعياً محاولات التقارب الاقتصادية لافتقارها إلى أرضية الثقة المتبادلة، التي يجب تعزيزها لتوفير المجال أمام إنجاح هكذا مبادرات.

والاعتبار الأخير الذي لا يقل أهمية عن بقية العوامل هو اعتبار اختلاف بوصلة التحالفات الدولية لضفتي الخليج، فلا يمكن لدول الخليج العربية التغافل عن السياق الصراعي للعلاقات الأميركية - الإيرانية حالياً. ولأن السياسة هي في أحد وجوهها فن الممكن، لا يبدو ممكناً لمنطقة الخليج التي تعتبر ذات أهمية استثنائية للأمن والاقتصاد العالميين – تصدر نصف استهلاك العالم من النفط - الخروج عن السياق الدولي العام من أجل منطقة تجارة حرة يبلغ سقفها الأعلى أربعة مليارات دولار، بافتراض استحواذ دول الخليج العربية على صادرات إيران غير النفطية كلها.

يؤدي غياب الأفق الاقتصادي الفعلي وعدم قدرة الأرضية السياسية الحالية على رفد هكذا مبادرات إلى قرار صعب لا يصب - على الأرجح - في اتجاه القبول بالمبادرة الإيرانية، ولكن يحسب لدول الخليج تأنيها في دراسة العرض وعدم التسرع برفضه من البداية.

كانت التجارة ملمحاً أساسياً في العلاقات بين ضفتي الخليج منذ قرون خلت، وستظل كذلك بفعل عامل الجغرافيا الحاضر بشدة في المشهد الخليجي، ولكن اعتبارات السياسة الدولية تطغى على المشهد الدولي بشكل أصبح فيه الترابط بين المصالح الوطنية للدول مع المصالح الدولية في إطار الاقتصاد العالمي أمراً غير قابل للتشكيك فيه.

كانت إيران ومازالت وستظل جاراً لدول الخليج العربية، فالجغرافيا هي قدر الأمم الذي لا يمكن الفكاك منه، ولكن يبقى عليها باعتبارها الدولة الخليجية الأكبر طمأنة جيرانها وتنفيس الاحتقانات الحدودية البرية منها والبحرية، كي تهيئ الأرضية لإنجاح مثل هذه المبادرات في المستقبل.

* كاتب وباحث مصري