غريب أمر الحياة السياسية في العالم العربي. فبجانب كل المعضلات المتعلقة بهيمنة النخب الحاكمة، وتضاؤل فرص المشاركة الشعبية في عمليات صنع القرار على نحو ديموقراطي، وطغيان بيروقراطية الإدارات الحكومية، وضعف قوى المعارضة، وجميعها كثر الحديث عنها في الآونة الأخيرة، يمكن الإشارة إلى مشكلة أخرى أراها على الدرجة ذاتها من الخطورة، ألا وهي غياب فئة السياسيين المحترفين أنفسهم، ولذلك أسباب متعددة؛ فهناك على صعيد أول إرث الانقلابات العسكرية في عدد من الدول التي هُمشت بها النخب المدنية طويلاً وعانت بالتبعية من عسكرة طاغية للمنصب السياسي، على صعيد ثان تتسم معظم الحالات العربية بضعف وجمود بالغين لمؤسسات التنشئة السياسية الحكومية وغير الحكومية، خاصة الأحزاب صاحبة الدور المركزي، نظرياً على الأقل، في إعداد أجيال جديدة من السياسيين. أما الأهم من هذا وذاك فهو السيطرة المتنامية للتكنوقراط على المجال السياسي الرسمي على نحو أضحت معه «حكومات الدكاترة»، كما تسمى في اللسان الشعبي المصري على سبيل المثال، التي يحل بها أستاذ الجامعة أو الخبير الأكاديمي محل السياسي في تولي العديد من الحقائب الوزارية بمثابة ظاهرة عربية عامة.

Ad

فمن النادر أن تجد في حكومة أي دولة تعتمد النظام الديموقراطي الليبرالي، أو ما قاربه كأسلوب لإدارة علاقتها بالمجتمع والمواطنين، مثل هذا الكم الكبير من حملة الشهادات الأكاديمية العليا، كما في العديد من الحكومات العربية الراهنة. الأرجح أن ترى عدداً منهم في المستويات التالية للمنصب الوزاري بصياغات مختلفة تبدأ بلجان الخبراء الدائمة والمؤقتة وتنتهي بعلاقات العمل الاستشارية. تقتصر عضوية الحكومات أو الائتلافات الحاكمة في دول مثل الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وألمانيا والهند والبرازيل، بالأساس، على السياسيين المتمرسين المنتمين لأحزاب ذات خطابات وبرامج معلنة تقيّم إنجازاتهم أو إخفاقاتهم في ضوئها على نحو يمكن من الممارسة الفعلية لمضامين المسؤولية والمحاسبة السياسية. ولا تستثنى من ذلك الوزارات السيادية مثل الدفاع والداخلية والخارجية التي يُعهد بها لمدنيين قادرين على مخاطبة الرأي العام، والسيطرة على البيروقراطيات الحكومية بصورة تضفي أولوية على تحقيق الأهداف السياسية بجانب ضمان الاستمرارية.

أما في العالم العربي، فيرتب لجوء النخب الحاكمة بانتظام الى التكنوقراط كموردين للأفكار وبدلاء للسياسيين الغائبين عن الساحة، عدداً غير محدود من الأزمات. البحث واستثمار الأمل في الخبير الأكاديمي القادر من وجهة نظر النخب على إنجاز تحديث وإصلاح المجتمع وصناعة التقدم بحكم كفاءته الفنية (خاصة أنه أنجز درجته العلمية في الغرب المتقدم) لا يعدو أن يكون سوى وهم كبير. فمثل هذا الخبير يفتقر في الأغلب الأعم الى الحس والخيال السياسي، ولا يملك أدوات التواصل مع الواقع الفعلي الذي تمكن معرفته من صياغة السياسات وتجاوز محدودية النماذج النظرية ولغة التكنوقراط المتخصصة التي تعتمد الأرقام والنسب أداة وحيدة للتواصل. تزداد الصورة قتامةً حينما نرى أن الوزراء الخبراء والوزراء أساتذة الجامعة في عالمنا العربي لا يتعاملون مع معايير الكفاءة التكنوقراطية والعلمية على نحو جدي، وأعني هنا بالأساس الأمانة في عرض الإنجازات والإخفاقات وتحمل مسؤوليات الأخيرة والاستقالة من المنصب حين ثبوت الفشل.

قد يصلح أستاذ الجامعة لأن يكون جزءاً من الجهاز البيروقراطي الحكومي في مستوياته الإدارية المختلفة، إن اضطلع بمهام محددة كرسم الخطط العملية لتنفيذ السياسات وتقييم فاعليتها على أن تتوافر به شروط الموظف العام، وهي باختصار الخبرة الإدارية والأمانة. أما السياسي، واستعير هنا بعض عبارات عالم اجتماع بدايات القرن العشرين الألماني ماكس فيبر، فهو إنسان من نوع خاص، يؤمن بأن مصير مجتمعه مرتبط بدوره، ويتمتع بملكة التعبير عن رؤى وأحلام قطاعات من المواطنين بصورة مفهومة لهم، وتصقل قدراته الممارسة الفعلية للسياسة بكل ما ارتبط بها من صعوبات وأزمات. ولا تسمح الاختلافات الشخصية والسيكولوجية والسلوكية الفاصلة بين النمطين للموظف العام بتخطي الحواجز نحو خانات السياسيين أو العكس. ولا يقتصر غياب السياسيين في ظهرانينا على الدوائر الحكومية فقط، بل يتعداه إلى أحزاب وحركات المعارضة ومنظمات المجتمع المدني الفاعلة في مجالات ترتبط مباشرة بالحياة السياسية مثل الدفاع عن حقوق الإنسان وتمكين المواطنين من المشاركة. هنا أيضاً ترتب هيمنة التكنوقراط، وهي جلية واضحة باستثناءات بسيطة ربما مثلت الحالة المغربية أهمها، من بين عوامل أخرى غياب الفاعلية والأهم اختفاء القطاعات الشعبية المؤيدة لرؤى ذلك الحزب أو تلك الجمعية.

يبقى أخيراً التساؤل حول دوافع وأهداف الخبير الأكاديمي من وراء السعي نحو المنصب السياسي. فلا شك أن للسلطة في مجتمعاتنا بريقاً خاصاً يتعلق جزئياً بالشائع من الانطباعات، بل والاتهامات، حول المصالح والمطامح الشخصية، إلا أنه لا يقتصر عليها. فكثير ما تسيطر الرغبة في الخروج من دوائر المتخصصين المغلقة بحثاً عن الإسهام المباشر في تغيير الواقع على ألباب الخبراء المهمومين بالشأن العام تماماً كحلم القيام بدور الناصح الأمين لرأس الدولة صاحب السلطة شبه المطلقة في ظل ضعف المؤسسات والأجهزة.