كانت سورية تبتزّ لبنان بإعلان ما يشبه الحروب عليه، بينما تبتزّه إسرائيل بهجوم تطلُّب السلام، وفي الحالين كان البلد عاجزاً عن تحمّل مترتبات الحرب مع إسرائيل والسلام مع سورية.

Ad

تكاد تُجمِع آراء المحللين والمتابعين على تقاطع في المصالح بين إسرائيل وسورية في المرحلة الراهنة، وهذا ما عبّرت عنه بوضوح صحافة إسرائيل قبل انعقاد مؤتمر أنابوليس وفي أثنائه، حيث ذهبت التقارير الصحافية المستندة إلى معلومات موثوقة، إلى التأكيد أن ثمة خلافاً في وجهات النظر بين الإدارة الإسرائيلية والأميركية حيال أوضاع المنطقة، خصوصاً في ما يتعلق بالملف السوري-اللبناني، وترى هذه التقارير أن إسرائيل تدرك أن الإدارة السورية مستعدّة للتنازل والتفاوض في كل مكان بما فيه الجولان، إلا في لبنان، وأن مكافأتها في لبنان قد تجعلها تقطع علاقتها مع إيران، وبالتالي تضّيق على «حزب الله» اللبناني وحركة «حماس» الفلسطينية، ومع أن إسرائيل ليست صاحبة القرار في الشرق الأوسط، إلا أن الإدارة الأميركية تأخذ وجهات نظرها ومصالحها في اعتبارها، لكن النتيجة الحاسمة التي لا يختلف عليها اثنان والتي نتجت عن مؤتمر أنابوليس، تمثّلت في رسائل الود المتبادلة بين الأميركيين والسوريين، والإشادة الأميركية المتكررة بالدور السوري هنا وهناك.

هذا التقاطع الإسرائيلي–السوري يبدو بالنسبة إلى لبنان أشبه ما يكون بإعصار بالغ الخطورة، فمثل هذا الاتفاق على لبنان وفيه يعني أن شرايين الدم الخارجية التي تتغذّى منها القوى السياسية اللبنانية قد قُطِعت أو هي في طريقها إلى الانسداد. وهذا أمر يطاول «حزب الله» المطارد من إسرائيل وقوى 14 آذار المطاردة من سورية، والحق أن عدواً واحداً لكل فريق من الفريقين يكفي لجعل الحياة اللبنانية جحيماً لا يطاق، فكيف إذا تقاطعت مصالح العدوين؟

ذلك أن المطاردة الإسرائيلية لـ«حزب الله» جعلت من قادته يختفون عن الميدان العام، وبات الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله لا يستطيع لدواعٍ أمنية أن يخاطب جمهوره في العلن خوفاً من اغتياله، مثلما جعل التهديد السوري لقوى الأكثرية النيابية زعماء ووجهاء فريق 14 آذار يعيشون في سجون فخمة، ولا يستطيعون التنقل في بلد يفترض أنهم يحكمون جزءاً منه. بطبيعة الحال، لا تحكم البلاد من الملاجئ، لكنها بدعة لبنانية يمكن أن تستمر ردحاً من الزمن، ثم لابد أن تنتهي إلى اجتراح حلّ ما، أما أن المصالح بين الطرفين الخارجيين تقاطعت، فهذا أدْعى لخشية «حزب الله» والمقاومة الإسلامية بالقدر نفسه الذي يجدر بفريق 14 آذار أن يخشى من أي اتفاق بين الجارين الجائرين على لبنان. ذلك أن تضافر القوتين معاً، مع بعض غض النظر الدولي على ما يجري أو قد يجري في لبنان، قد يجعل العمل السياسي في لبنان مرادفاً للموت اغتيالاً من دون أي مبالغة على الإطلاق.

لكن اللبنانيين الذين بدوا محاصرين في الأيام السابقة بخياراتهم التي قسمت في ما بينهم، ودفّعت البلد أثماناً لا يمكن له أن يتحمّل تبعاتها، ولا طاقة له على تحمّل دوامها، يستطيعون الالتفاف على هذا التقاطع في المصالح والاستفادة من مفاعيلها على نحو لا سابق له في تاريخ لبنان. بحكم أن العلاقة التي حكمت لبنان بجاريه كانت على الدوام جائرة حرباً وسلماً ومن الجهتين، فكانت إسرائيل تبتزّ لبنان بتطلُّب السلام معه، وفق مقولة إسرائيلية شهيرة كانت تعتبر لبنان البلد الثاني بعد مصر الذي سيوقع اتفاق سلام معها، وكان لبنان الذي يعجز عن تحمّل تبعات حرب ضد إسرائيل محكوماً على الدوام بهذ المعادلة الجائرة، لا يستطيع أن يقيم سلاماً مع إسرائيل، لكنه أيضاً لا يستطيع أن يجنب نفسه ويلات الحرب، أما العلاقة مع سورية فكانت تقوم على معادلة مختلفة تماماً، فالسوريون كانوا على الدوام يشترطون لأي سلام وعلاقات عادية مع لبنان شروطاً لا يطيقها أي بلد مهما صغر حجمه، لذا كانت سورية تبتزّ البلد بإعلان ما يشبه الحروب عليه، بينما تبتزّه إسرائيل بهجوم تطلُّب السلام، وفي الحالين كان البلد عاجزاً عن تحمّل مترتبات الحرب مع إسرائيل والسلام مع سورية.

اليوم يبدو أن اتفاق الطرفين على لبنان قد يجعل اللبنانيين الذين انقسموا طويلاً حيال اعتماد خيار من الخيارين، أقرب ما يكونون إلى عقد اتفاق المتضررين. فالحروب التي خيضت ضد الفئتين بالتقسيط تبدو اليوم كما لو أنها تجمع نُذُرها الخطيرة في سلة واحدة، مما يدفع اللبنانيين حكماً، وهذا ما يفرضه المنطق، على أن يتوحّدوا ويجهدوا في تجنيب بلدهم أحكام ومترتبات العلاقة السورية-الإسرائيلية التي قد تجور عليهم حرباً أو سلماً بالدرجة نفسها من القسوة واللا عدالة.

* كاتب لبناني