تعيش البلاد هذه الأيام تدهورا كبيرا في النظام التعليمي لدرجة أصبحت فيها المخرجات التعليمية هي أقرب للجهل، الأمر الذي يتطلب من الجميع دق ناقوس الخطر، ووضع حد لهذا التدهور المريب.

Ad

لم يمض سوى أربع سنوات على المؤتمر الوطني السابق للتعليم حتى عقد مؤتمر آخر، وكأن أزمة التعليم غامضة الى هذه الدرجة التي تستدعي مزيداً من المؤتمرات «الاحتفالية» والتوصيات التي تزدحم فيها صفحات التقارير النهائية لتلك المؤتمرات، في حين تستمر حياة العاملين في قطاع التعليم- قبل المؤتمر وبعده - بنفس الوتيرة والنمط وعلى كل المستويات الإدارية والأكاديمية.

«المصلحجية والشخصانية»

ان البحث عن دواء ناجع لعلة التعليم لا يحتاج الى مزيد من المؤتمرات، ولا يتطلب من احد مغادرة مكتبه بل يحتاج فقط الى طلب أقرب نسخة عن أقدم مؤتمر وتصفُّح آخر ما جاء به من التوصيات، وعليه بعدها أن يتخذ القرارات الحاسمة ويتابع تنفيذها، ولكن هذا الامر لن يتحقق طالما كل شيء يتحول في ديرتنا وبمعية اصحاب الاهواء الى مادة للصراع السياسي، الامر الذي يجعل قياديي «التربية» غير قادرين على اتخاذ القرار خشية من المحاسبة «النيابية» التي تنطلق من باب «الهون أبرك ما يكون» أو انها تقيّم أي عمل انطلاقاً من تأثيره على ناخبي هذا النائب أو ذاك.

لكل هذه الامور وغيرها أصبح العلم لدينا بعيدا عن آفاقه الرحبة واصبح مزرياً الى درجة ينبئ بمخاطر كبيرة على مستقبل البلد والمجتمع. خصوصا بعد ملاحظة التراجع في التعليم ومخرجاته، واتجاه معظم الطلبة الى المؤسسات التعليمية بهدف لا يتجاوز حصولهم على الشهادات، وللاسف، تتم هذه الامور بمباركة من بعض نواب الامة الذين يكرسون هذا الهدف، وفي هذا الصدد أشرت في مقالة سابقة الى توسط النائب علي العمير لدى وكيلة التعليم العالي لإلغاء قرار يقضي بضرورة انهاء طالب الدبلوم ما لا يقل عن سنتين كي يحصل على درجة البكالوريوس، فألغت الوكيلة القرار بعد أن رفعته الى الوزيرة، وبعدها هنأ النائب العمير طلبة بريطانيا الذين شكروه، كما شكر اتحاد الطلبة «الفارسة الوكيلة» لتسهيل عملية الحصول على البكالوريوس بتسعة أشهر فقط بعد الدبلوم، ليحمل بعدها «الخريج» مسمى مهندس!

بدعة الجامعات الخاصة

هناك أسلوب آخر لتسهيل عملية الحصول على الشهادات انتشر اخيرا بشكل مخيف، يتمثل بابتعاث وزارة التعليم العالي أكثر من 4500 طالب وطالبة الى ما يسمى بالجامعات الخاصة في مصر وعدد آخر منهم الى جامعات خاصة في الأردن، اذ أصبح بإمكان الراغبين بالحصول على شهادة من دون الحد الأدنى المقبول من المعرفة الاتجاه إلى تلك الجامعات العربية التي فتحت فروعاً لها في البحرين لتقريب المسافة على الكويتيين.

ان السمة الغالبة والمشجعة لهذه الفئة من الطلبة على الالتحاق بهذه الجامعات هي ان الدراسة فيها لا تتطلب حضور الطلبة «الخليجيين»، مراعاة لظروفهم! اذ ان الطالب يذهب في بداية الفصل الدراسي ليدفع المقسوم أو يدفع أحد عنه إن كان مبتعثاً، ويسجل مواد الفصل الدارسي ثم يغادر عائداً الى بلده، ولن يطلب منه العودة أو حضور الدروس «مراعاة لبعد المسافة وعناء السفر»، المهم أن الطالب يتواجد أيام الاختبارات ليقدمها «بالطبع بعد أن تكون قد تسربت مع الإجابات النموذجية»، ثم يعود في الفصل التالي والذي يليه الى أن «يتخرج» حاملاً شهادة جامعية من دون معرفة حتى الأجواء الجامعية واهميتها!! وأستثني في هذا الصدد بعض تلك الجامعات التي «تزعج» طلبتها الخليجيين بمطالبتهم بالحضور مرة كل شهر.

وحري بنا في هذا المقام ان نؤكد حصول مثل هذه الامور بنشر نص مقتبس من مقابلة أجرتها صحيفة «الجريدة» بتاريخ 25 فبراير 2008 مع نائب رئيس مجلس الإدارة لأكاديمية الفراعنة د. هشام أحمد عشوش يبين فيه تعامل «الأكاديمية» مع الطالب الكويتي:

«الأكاديمية متفهمة وضع الطالب لا سيما الطالب الكويتي الذي لا يستطيع الحضور باستمرار الى الأكاديمية نظرا إلى انشغاله، ولذلك تقوم الأكاديمية بعمل محاضرات مراجعة مكثفة قبل اسبوع من وقت الامتحانات، بالإضافة إلى أن الدراسة تتم على فصلين دراسيين، ويمتحن الطالب في الفصل الدراسي الأول في شهر مارس واذا لم يستطع الطالب الحضور لأداء الامتحانات يقدم عذرا إلى الأكاديمية، وفي الفصل الثاني يؤدي امتحانات الفصل الأول والثاني معا في شهر مايو».

وهذا السيل من خريجي هذه «الجامعات» سيملأ سوق العمل الكويتي (القطاع العام على وجه التحديد لأنه يحوي 94% من قوة العمل الكويتية) بحملة هذه الشهادات الذين سيضمنون جميعهم الدرجة الرابعة من سلم الوظائف الحكومية، وسيطالبون بكادر خاص بعد فترة وجيزة لكونهم «مظلومين» مقارنة بالآخرين!، وهنا تحضرني اجابة علي بن أبي طالب (رضي الله عنه ) عن سؤال لرجل اسمه كميل يتضمن: المال أفضل أم العلم؟، فقال «ياكميل العلم خير من المال... العلم يحرسك وأنت تحرس المال... والعلم حاكم والمال محكوم عليه... والمال تنقصه النفقة والعلم يزكو بالانفاق». فهل من متعظ؟

التلقين وانعدام التفكير

أما من جهة التعليم العام فقد أجهز عليه تماماً بعد أن أصر «المربون» على أسلوب الحفظ والتلقين بدل التفكير النقدي، وأصبح الطالب «النموذجي» هو الذي لا يصحح خطأ المدرس ولا يناقشه في منطق المعلومة التي يتلقاها، إنما يبصم على كلام المدرس «العبقري» حتى في حال الخطأ، والطالب «المثالي» هو الذي يتحلى بالصمت بدلاً من النقاش والحوار، وما يزيد الطين بلة أن لا أحد من التلاميذ يبذل أدنى جهد في تصميم أو تنفيذ «الوسيلة التعليمية»، علما ان جميع المدرسين يقررونها على التلاميذ بشكل متكرر وهم يعلمون أن المستفيد الوحيد من ذلك هم أصحاب المكاتب المتخصصة في «تنفيذ الوسائل وبيع الأبحاث العلمية والمذكرات الجاهزة لكل مادة بما في ذلك الأسئلة النموذجية وإجاباتها». وكي لا «أظلم» جميع الطلبة، فبعضهم يستخدم الإنترنت للحصول على ضالته فيما يتعلق بالأبحاث والتقارير.

الدروس الخصوصية

من جانب آخر تحولت الدروس الخصوصية الى وسيلة اثراء فائقة السرعة للمدرسين الذين جلبتهم وزارة التربية برواتب متدنية، فوجدوا ضالتهم في التدريس الخصوصي، ولجأ البعض منهم الى التقصير في عمله عن سبق إصرار وتعمد كي يبقى الطلبة بحاجته وأخذ المقسوم منهم، بين 10 و 15 دينارا عن الساعة الواحدة، وبعضهم الاخر يغري الطلبة بأن يقدم لهم أسئلة الاختبارات والإجابات الصحيحة عليها مقابل الاستمرار معه في الدروس الخصوصية، (هذا ينطبق على المدارس الخاصة ايضاً).

الغش حق مكتسب

كما تحول الغش من مشكلة الى ظاهرة الى حق مكتسب لكل طالب، لدرجة أصبح المدرس «الشريف» عرضة للإهانات والضرب لأنه «يتعدى» على «حقوق الطلبة» اثناء ضبطهم وهم يغشون. وأصبح المدرس «غير الشريف» الذي يساعد على الغش (حتى في مادته العلمية ولبعض طلبته) «حَبّوب»، وفي هذا الامر، وللاسف، دخلت الوساطة «القبلية والطائفية والأسرية» لتغشيش الطلبة ومساعدتهم على تجاوز «صعوبة» الاختبارات وتسهيل الحصول على الشهادة!

معلمو المعلمين

ومما ساعد على تفشي تلك الظاهرة بشكل لم يعد خافيا على العيان هم المدرسون أنفسهم خريجو هذا النظام التعليمي «المهترئ» فنجد اغلبهم يعيدون إنتاج التخلف وأساليب التلقين والغش والدروس الخصوصية على اعتبارها -على حد اعتقادهم- أمورا طبيعية، ولم لا طالما اوصلتهم الى مرتبة «معلم»! وهذه الحال تنطبق على الكليات التي تخرج مدرسي التعليم العام، فأغلب الأساتذة لا يغيرون كتاب المقرر سنوات طوالاً، وإن غيروه فلا يكون أكثر من تغيير الطبعة (منقحة) ليحذف منها فصلاً ويزيد آخر، وبذلك أصبحت عملية بيع الكتب تجارة رائجة يتعارك عليها «الزملاء». وعلمت أن بعض الأساتذة يطلب التوقيع على الكتب التي بحوزة الطلبة كي يتأكد أن كل طالب منهم اشترى نسخة جديدة من كتابه، وآخرون يطلبون «تقريراً» عن أحد فصول الكتاب ويشترط قص أوراق الكتاب التي تحوي ذلك الفصل وإرفاقها مع «التقرير»، ثم يكرر الفصل المطلوب كتابة التقرير منه في الفصل الدراسي اللاحق كي يضمن شراء جميع الطلبة المسجلين في المقرر نسخاً جديدة من مؤلفه «الكبير» الذي لن يتعدى القص واللصق أو اعادة الاستخدام recycling.

لا عزاء للوطن

ونخلص مما حصل في اهم قطاع في دولتنا الذي يخرج اجيال المستقبل الذين سيحملون امانة بناء الوطن وقيادته ونهضته الى ان الوضع في البلاد أصبح في غاية السوء: مدرسون يبحثون عن الدروس الخصوصية لان رواتبهم متدنية، وطلبة يبحثون عن أقصر الطرق لـ «النجاح»، وأسر تنتظر حصول أبنائها على الشهادات، وقطاع عام لا تعنيه المعرفة من قريب أو بعيد ويكتفي بالشهادة لتحديد قيمة المرتب الشهري فقط، ومجتمع ينظر الى الشهادة كوجاهة اجتماعية ولا يهتم بالمعرفة العلمية. ووزارة التعليم تبتعث طلبة الى مؤسسات اكاديمية «مشبوهة»، وكليات تخرج معلمين بمستويات في غاية التدني. والخاسر الاول والاخير هو الوطن.