إنه مارك روفالو برفقة جوليان مور يمشيان الهوينا محاولين عبور أرض قاحلة مليئة بالأوساخ بحثاً عن خشبة خلاص تخرجهما من الورطة التي وقعا فيها، وحولهما حشد كبير من الأشخاص بملابس قذرة وغير متناسقة يشقون سبيلهم باتجاه طريق سريعة زرعت جدرانها بكتابات الغرافيتي وامتلأت جوانبها بسيارات محطمة وكأنهم يشاركون في رقصة باليه خيالية يؤديها المحكوم عليهم بالعقوبة السرمدية. هذا ليس بمنظر رائع في الواقع إلا أن من يشاهده لا يمكن أن يمر عليه مرور الكرام وهذا ما أراده المخرج فرناندو ميريلس من خلال الفيلم وهو يستعد حالياً مع فريق التصوير لالتقاط مشهد جديد من «العمى» وهو فيلم سينمائي طويل مقتبس عن رواية الكاتب البرتغالي خوسيه ساراماغو الصادرة عام 1995 والتي نال عليها جائزة نوبل وتتحدث عن بلدة يصاب أهلها بالعمى بشكل جماعي ويؤدي روفالو في الفيلم شخصية طبيب العيون الملقب بالـ«طبيب» بكل بساطة والمصاب بمرض مرعب تبدو فيه العينان طبيعيتين إنما تغطيهما طبقة بيضاء سميكة تحجب الرؤيا عنهما.الممثلة مور، زوجة الطبيب هي الوحيدة التي تملك مناعة ضد هذه الاصابة. ومع تطور الأحداث تجد نفسها مجبرة على مرافقة زوجها ومجموعة من الرفاق الواقعين في المرض نفسه (من بينهم داني غلوفر وأليس براغا وغيرهما من الممثلين) عبر طريق وعرة أفضت بهم إلى مجتمع انهار فيه النظام وأصبح البشر يعيشون كالحيوانات.وصف النقاد رواية ساراماغو بالصورة المؤلمة والأخاذة في آن معاً إذ ترمز إلى الكوارث التي ضربت العالم في القرن العشرين كالمحرقة ووصمة العار على جبين مرضى الايدز والتأثير المنذر بالشؤم لشخصية «Big Brother» علماً أنها نشرت أولاً وسط نزعة شديدة إلى كتابة سيناريوهات، تتحدث عن نهاية العالم، شهدها العالم في نهاية القرن الماضي فكانت نقطة انطلاق سيطرة ثقافة البوب التي طغى عليها الأدب الرؤيوي.ومع أن أحداث الفيلم تدور في نيو اورلينز بعد إعصار كاترينا أو مخيم اللاجئين في أفريقيا شبه الصحراء فإن الاطار العام يعكس رأي المخرج بأن رسالة «العمى» تقترب يوماً بعد يوم من العصر الحالي. ويشرح المخرج ميريليس سبب اختياره هذا الموضوع فيقول: «لأننا نساهم اليوم في نشر التلوث وتدمير الأرض ولكننا نمضي قدماً ونستمر في البيع والاحراق وكأننا مصابون بالعمى» علماً أن فيلمه الشهير «City of God» الذي لاقى نجاحاً كبيراً والذي يتحدث عن العصابات الشبابية البرازيلية كرّسه مخرجاً موهوباً لأفلام الحركة ويتحلى بحس اجتماعي مرهف. إن تصوير هذا الفيلم الياباني والكندي والبرازيلي المشترك تم في الخريف الماضي في هذه المدينة الكبيرة الضاجة بالحركة والسكان وحددت شركة انتاج ميراماكس موعد إصدار الفيلم باللغة الانكليزية في أغسطس وفي الواقع كان من الممكن أن يكون عنوان رواية ساراماغو الأفضل مبيعاً على الصعيد العالمي «عيون جاحظة» علماً انها نشرت أصلاً باللغة البرتغالية بعنوان «مقال حول العمى» وفي كل من الفيلم والكتاب ليس العمى مجرد عاهة جسدية وإنما صورة للجانب المظلم من الطبيعة الانسانية والمتمثل بالأذى والأنانية والعنف واللامبالاة الارادية. الحروب القبلية«غالباً ما نقرأ عن الحروب القبلية في بعض بلدان أفريقيا ومدى فظاعتها وعنفها ووحشيتها وليس ما يفرقنا عنها» على حد تعبير ميريليس الذي جعل نقل المآسي الأخلاقية لشعوب العالم الثالث إلى روايات درامية حقل اختصاص له ملزماً بذلك جماهير العالم الأول على التشبه بها.كان انجاز فيلم «العمى» مخيفاً ومثيراً بالنسبة إلى الطاقم وفريق التمثيل الذي ضم 700 شخص ويقول الممثل كريستيان دورفورت إن هذا الشعور استأثر به عند تلقيه التدريب اللازم لاداء دور الأعمى علماً أنه درّب زملاءه في سلسلة من ورش العمل.كذلك يؤكد أن مساعدة الممثلين على التكيف مع «الوضع العاطفي والنفسي وحالة الضعف التي تنتابهم» كانت توازي أهمية اكتساب التقنيات الجسدية لاداء دور الأعمى فقد شدد ميريليس على رغبته في أن تظهر معالم اليأس والصدمة على الممثلين فلا يذكّروننا بأفلام الدرجة الثانية.في أحد التمارين طلب من الممثلين الرئيسيَّين عصب أعينهما وأن يلحقا الصوت المنبعث من الجرس وكان روفالو يواجه المشاكل بصورة خاصة فيهيم على وجهه تائهاً وأثناء التصوير وضع روفالو عدسات لاصقة خاصة أفقدته البصر من دون إغماض عينيه بالاضافة إلى طبقة سميكة من الماكياج ليبدو أكبر سناً مما هو عليه.ويقول روفالو خلال استراحة من التصوير: «يسيطر الرعب في البداية وينتابك شعور بالحرمان ثم تهدأ الأجواء» ويضيف «إن بصرنا هو مصدر قلق بالنسبة إلينا فتمر فتاة جميلة من أمامك وسيارات وملابس ومشاهد فظيعة على التلفزيون. لا شك في أن نظرنا يسبب لنا العذاب ولا يمكنك أن تكتشف الأمر قبل أن تصاب بالعمى...بصفتي ممثلا شعرت فجأة بالحرية». يعاني المبصرون عذابات تفوق تلك التي يعاني منها فاقدو البصر، وفيما ينشر الوباء الذعر في نفوس الأهالي تقوم الحكومة باستدعاء مئات المواطنين ووضعهم في الحجر الصحي بمن فيهم الطبيب وزوجته المهددين من عصابة قطاع طرق على رأسهم غاييل غارسيا بيرتال البغيض. ولا يبخل الفيلم في وصف ظروف العيش القاسية مع أنه يوفّر على المشاهدين بعض تفاصيل الرواية الموجعة على غرار تصوير أشخاص جالسين على أكوام من البراز ومع ذلك فإن مشاهد الاغتصاب والقتل بدافع الانتقام لها نصيبها في الفيلم.إنما لا يخلو الفيلم أيضاً من مظاهر البسالة وأعمال فدائية فردية تعكس لطف بعض الأشخاص وإن عاهة العمى تساعد الشخصيات الأساسية على اكتشاف أو اعادة اكتشاف قدرتها على التعبير ويقول روفالو: «يشكل العمى أحياناً الميزة الأفضل التي يمكن أن نتحلى بها ولكنها تؤدي أحياناً أخرى إلى قيام أسوأ علاقة بين البشر وأشنعها وأدناها قيمة». مع أن نجاح هذا الفيلم لن يكون مضموناً يحاول كل من ميريليس وكاتب السيناريو دون ماك كالير وسائر أعضاء فريق الانتاج التخفيف من الجو القاتم المسيطر على الكتاب بنقل شخصية الراوي الخارجي الذي ينضح ذكاء وفطنة في كتاب ساراماغو (مع أن ساراماغو قاوم فكرة بيع حقوق الفيلم لـ»Blindness» لسنوات فقد رفض التدخل في موضوع إدخال بعض التعديلات عليه). ويقول ماك كالير: «إن ما يساعدك على تقبّل الكتاب هو هذا الصوت الأدبي البعيد المتكلم بلهجة ساخرة والذي يبعد عنه شبح الأفلام الاستغلالية» ويتابع «أدركت أنه كان من واجبي نقل مشهد سينمائي يسمح للمشاهد باكتساب رؤيا واضحة عن الوقائع القائمة».وقرر كل من ماك كالير وميريليس اسناد مهمة اكساب هذه الرؤيا إلى الأصوات الخارجية الصادرة عن شخصية غلوفر والمعرف عنه في الكتاب بالرجل ذي العصبة السوداء حول العينين وهو يلعب دور الأنا الثانية لساراماغو كما أن الفيلم يتطرق في بعض المشاهد إلى أعمال فنية شهيرة ببراعة وسرعة فائقة. ويشرح ميريليس قائلاً: «بما أن الأمر يتعلق بالصورة والفيلم والرؤيا فكرت أنه من المنطقي ألا أنقل تاريخ الرسم ولكن أن أنظر إلى الأمور بطرق مختلفة من رامبرنت إلى هؤلاء الفنانين المعاصرين بالذات، ولكنها مسألة دقيقة».
توابل - ثقافات
العمى فيلم مقتبس عن رواية لساراماغو... سيناريو نهاية العالم في عيون المبصرين
28-02-2008