في اللقطات الأولى من فيلم «مدينة الرجال» (City of Men) تظهر عصابة أفرادها مدججون بالأسلحة يسيرون على طول شاطئ ريو دي جنيرو في يوم مشمس شديد الرطوبة في البرازيل تحت أعين الحراس الذين شهروا مسدساتهم واتخذوا من المنحدرات الصخرية الشاهقة وسطوح المنازل مواقع لهم في جو ملوّث بالعنف، ثم ينتقل المشهد إلى شابين في سن المراهقة أحدهما والد لطفل يجرّه في عربة أمامه يتعقبان أثر العصابة حتى الشاطئ، لكن ما لبث أن أخليا الساحة مخلفين وراءهما الطفل الصغير وقد وضع لهاية في فمه. ولما أدركا خطأهما لاحقاً وهمّا بالرجوع فوجئا باختفاء الطفل.

Ad

وفيما ينقل فيلم «مدينة الله»

(City of God)، من انتاج العام 2002 (نال ترحيباً واسعاً وشارك في إخراجه كل من فرناندو ميريليس وكاتيا لاند)، قصة عنف تافهة ومعركة بقاء ويتحدث عن أرباب المخدرات المتصارعين في منحدرات التلال الممتدة على طول الأحياء الفقيرة، يصوّر فيلم «سيتي اوف مان»، من إخراج باولو موريلي، حياة أشخاص عاديين يعيشون في هذه المجتمعات نفسها ويسرد حكاية تحذيرية حول المسؤولية وتربية الأولاد، لا سيما أن معظم الشبان في الفيلم نشأوا من دون آبائهم فوقعوا في الخطأ نفسه لاحقاً وأنجبوا أطفالاً سرعان ما تخلوا عنهم إلى أن أدركوا المسؤوليات التي ترتبها عليهم حياتهم كراشدين فبدأوا السعي إلى جمع أفراد عائلاتهم المشتتة، مع الاشارة إلى أن الفيلم يوحي بأن الأمل مقطوع بالنسبة إليهم.

أحياء فقيرة

لا شك في أنّ الموضوع شديد الأهمية، مع ذلك يعترف موريلي بأنه جازف في انتاج هذا الفيلم ولكن النجاح الذي حققه على شبابيك التذاكر كان واسعاً، إذ حصد 7.5 ملايين دولار في الولايات المتحدة. كذلك كان هذا النجاح حاسماً فخلّف أثراً جديداً في السينما البرازيلية ونال 4 ترشيحات على الاوسكار. فيما يركّز موريلي اهتمامه راهناً على مدن الصفائح في ريو أو الأحياء الفقيرة التي يتسلل اليها المجرمون ويقيم فيها ملايين الأشخاص، قد يعتبر المشاهدون فيلمه الأخير تتمة لفيلم سابق. هذه مخاطرة بالنسبة الى المخرج مع الاشارة الى أن الفيلم الأول كان من اخراج ميريليس نفسه وظهرت فيه مجموعة من الممثلين شاركوا في الفيلم الثاني.

وفي عالم الأفلام الأجنبية الذي تطغى عليه المنافسة الشديدة وتدور فيه صراعات شرسة من أجل الحصول على مواقع محدودة في دور السينما، لا يكاد يسمع بالتتمات، كذلك من غير المألوف توزيع فيلم أجنبي مقتبس عن مسلسل تلفزيوني غير معروف خارج اطار البلد الذي أنتج فيه. ففيلم «سيتي اوف غاد» مستوحى من برنامج تلفزيوني برازيلي يعرض على مدى الفصول الأربعة ويحمل الاسم نفسه وما زالت علامات الاستفهام حول ما اذا كانت القصة الجديدة ستلاقي الصدى الواسع نفسه بين جمهور الولايات المتحدة (يصوّر البرنامج التلفزيوني وهو من انتاج شركة «غلوبو فيلمز» حياة شابين ترعرعا في الأحياء الفقيرة أما أحداث الفيلم فتبدأ وهما في الـ 18 من عمرهما).

كان موريلي جالساً على طاولة مؤتمرات خلت إلا منه في فندق ريجنسي في مانهاتن فقال بلهجة هادئة: « خاطرنا بعض الشيء لا سيما أن فيلم «City of God» ظل خلال عقود يحتل المرتبة الأولى بين الأفلام البرازيلية وكنت أعلم أن لا مفر من مقارنته بفيلمنا ولا أنكر أن هذه المقارنة ستؤلمني في حال تمت ولكني شديد الافتخار بما أنجزناه» ثم تقدّم موريلي بهندامه الأنيق وقدّه الممشوق وشعره الأبيض وأضاف: «سيرى الناس أننا لم ننتج تتمّة لفيلم سابق بل فيلماً مستقلاً قائماً بحدّ ذاته وناشئاً عن عالم بدأ يتبلور مع انتاج الفيلم الأول و حققنا سابقة في هذا المجال».

وتجدر الاشارة إلى أن التعارض شديد في بعض نواحي هذا الفيلم، ففيما اتسم «سيتي اوف غاد» بالسوداوية والقساوة لاح بصيص أمل في أفق «سيتي اوف مان» حول مستقبل أفضل للطبقة المعدومة المحاصرة في البرازيل، غير أن القواسم المشتركة كبيرة بين الفيلمين، فبالاضافة إلى استعانتهما بفريق العمل نفسه صوِّر الفيلمان بكاميرات محمولة وبوتيرة تقطع الأنفاس. يسرد الفيلمان قصة خيالية مستوحاة من الحقيقة بأسلوب وثائقي صارخ وواقعي ويستعينان بمجموعة من الممثلين الشباب غير المعروفين في الوسط التمثيلي والمقيمين في مدن الصفائح نفسها، كذلك يعتمدان بشكل كبيرعلى الحوار المرتجل وصوِّرا بالكامل خارج الستوديو.

ساو باولو

هل تجمع بين ميريليس وموريلي رؤيا إبداعية مشتركة أو خيط رفيع يربط بين الفيلمين؟ ولد الرجلان في ساو باولو وينتميان إلى عائلتين من الطبقة المتوسطة ما جعلهما ينشآن بعيداً عن أحياء ريو الفقيرة. في مقابلة أجريت مع ميريليس على الهاتف قال الأخير أنهما يتقاسمان الهدف نفسه ألا وهو سبر أغوار عالم خفيّ وأضاف: «كلانا سرد بعض القصص ولكنها لم تكن نفسها جميعاً».

وبعدما حقق «سيتي اوف غاد» نجاحاً على المستوى العالمي انتقل ميريليس إلى إخراج أفلام أخرى أقرب إلى الطابع التجاري لا سيما «The Constant Gardener»، لكنه لم يفوّت على نفسه العرض الذي قدمته له إحدى أكبر شركات الانتاج في البرازيل بإنتاج مسلسل تلفزيوني مقتبس عن فيلمه الأخير.

كانت النتيجة إنتاج مسلسل يعرض على مدار السنة «سيتي اوف مان»، ويتعامل مع العنف والجريمة بطريقة قاسية إنما يغلب عليه الطابع الكوميدي القاتم وحتى جو المودَّة. ركز في الحلقات المختلفة على المراهقين «ايس» و«والاس» ومغامراتهما الظريفة التي كانت مدعاة للانتقاد في صحيفة لوس انجليس تايمز حيث أطلق على المسلسل اسم «Wonder Years» البرازيل مع اضافة بعض المسدسات.

وتميّز الفيلم بعدد لا يستهان به من الرؤى الابداعية نظراً إلى أن البرنامج استعان بخبرة 9 مخرجين من بينهم موريلي الذي تعاون في السابق مع ميريليس، ومع بدء الموسم الثاني خطر لهم إنتاج فيلم آخر انطلاقاً من هذا المسلسل.

ويوضح موريلي وجهة نظره في هذا الموضوع فيقول: «أدركنا أن بين أيدينا مادة مثيرة للاهتمام وعندئذ بدأنا نخطط لمستقبل المشروع برمته وقررنا أن نمدّد عرضه على التلفزيون لموسمين إضافيين وأن ننتج في مرحلة لاحقة فيلماً سينمائياً طويلاً إتماماً للمشروع. شارك فرناندو في وضع هذه الخطة، فتناقشنا في الموضوع وقررنا «أن نحقق انجازاً لا سابق له».

وتمثلت نقطة التحول باقتراح موريلي غير المتوقع إسناد دور الأبوة لـ«ايس» (يؤدي دوره دوغلاس سيلفا في البرنامج التلفزيوني والفيلم) وهو في سن المراهقة،ذلك أن من المنطقي التطرق الى موضوع الأبوة أو الافتقار اليها في مدن الصفائح. بني المسلسل على هذا الموضوع في الحلقات الأخيرة منه ويقول المخرج في هذا الصدد: «إن أفراد هذا المجتمع على احتكاك دائم بهذه المشكلة ولكن من النادر تناول هذا الموضوع الذي لا ينال الاهتمام الذي يستحق في بلدنا، فيتم تجاهله مما شجعنا على تسليط الضوء عليه».

أما فيلم «سيتي اوف مان» فينقل مغامرات «ايس» و«والاس» كما هي وهما على وشك بلوغ الثامنة عشرة وينتاب «ايس» شعور بالذنب والقلق في تربية ابنه بعدما غادرت زوجته البلدة بحثاً عن عمل أفضل، وفي غضون ذلك ينطلق والاس (دارلان كونها) في مسيرة بحث عن والده الذي لم يسبق له أن تعرّف إليه فيكتشف حقائق مؤلمة.

إستقدم موريلي ممثلين من الشباب في الأحياء الفقيرة رغبة منه في تصوير هذا العالم بواقعية تامة، فعوّضوا عن افتقارهم إلى التدريب التقليدي بالواقعية والحوار الحدسي علماً أن الممثلين لم يطلعوا على السيناريو الذي كتبه المخرج بل اعتمدوا على الإعادات الشاملة والتنازلات المتبادلة في كل مشهد.

شخصيات معقّدة

وفي بعض الحالات أتت القصص التي عاشها الممثلون في حياتهم مرآة للشخصيات المعقدة والمنحرفة التي لعبوها. فعلى سبيل المثال تود سيلفا البالغة 20 عاماً أن تتزوج وتبني عائلة على حد تعبير موريلي الذي صرح: « بدّل الفيلم الممثليَن مع العلم أن أياً منهما لم يكن يعرف والده ولكنهما أرادا تحمل مسؤوليات أكبر مع تقدمهما في السن».

أما الآخرون فلم يلحق بهم أي تغيير ووصف ميريليس أحد الممثلين في فيلم «سيتي اوف غاد» الذي بدأ ينجب الأولاد من فتيات الحي في سن ال16 وبعد خمس سنوات أصبح والداً لخمسة أولاد، قلما كان يتسنى له تمضية الوقت برفقتهم» ويمازح ميريليس قائلاً: «قلت له إنه يجب إخصاؤه مؤكداً له أن المسألة ليست مجرد لعبة مسلية وأن تصرفاته غير عقلانية».

بدأ كل من موريلي وميريليس يبحثان في مشاريع جديدة ولكن فكرة التطرق الى مدن الصفائح في فيلم مستقبلي ما زالت واردة على أن يمضيا قدماً في تتبّع أخبار «ايس» و«والاس» حتى أواخر العشرينات من عمرهما وظهور الحقيقة بشأن الطفل الصغير الذي بقي على قيد الحياة بعد تركه.

وقال موريلي: «ستكون القصة نموذجية عن البرازيل وهؤلاء الأشخاص المختلفون، إنما لا تلوح في الأفق توقعات عظيمة بالنسبة إليهم أو مستقبل زاهر في هذا الصدد ولعل بصيص الأمل لم ينقطع بعد ولكن الفرص ضئيلة جداً».