يأتي قرار مجلس الاحتياطي الفدرالي الأميركي، خفض سعر الفائدة الأساسي Prime Rate بواقع 0.5 نقطة ضمن سياق سياسته التوسعية الراهنة، التي تهدف إلى الحد من التباطؤ في معدل نمو الناتج المحلي الإجمالي في اقتصاد الولايات المتحدة، الذي يتفق عدد لا بأس به من خبراء الاقتصاد على وصوله إلى حافة مرحلة ركود اقتصادي، قد يكون أعمق وأقوى من حالة الركود السابقة التي تمكن الاقتصاد الأميركي من تجاوزها في عام 2001.

Ad

وهذا الخفض هو الثاني من نوعه خلال ثمانية أيام، إذ سبق للمجلس أن خفض هذا السعر 0.75 نقطة، أي ان تخفيض سعر الفائدة خلال هذه الفترة القياسية في قصرها، قد بلغ 1.25 نقطة، وهذا إجراء نقدي يندر حدوثه بمثل هذا التتابع الدراماتيكي في غير حالات الركود المؤكدة والعميقة، وبقدر ما يشكل دفعة قوية ايجابية للنشاط الاقتصادي، فإنه يعكس حالة قلق غير عادية لدى صانع السياسة النقدية في الولايات المتحدة، خصوصا أنه يترافق مع حزمة مالية توسعية أقرها مجلس الشيوخ الأميركي، تصل تكلفتها إلى نحو 157 مليار دولار.

وتسود توقعات بمزيد من الخفض في سعر الفائدة الأساسي، بما يصل بها إلى 1%. ولاريب في أن هذه القرارات المهمة وتداعياتها تثير كماً كبيراً من علامات الاستفهام عن مدى جدية المخاطر التي يتعرض لها الاقتصاد الأميركي في الوقت الراهن، خصوصا أن مخاوف السلطة النقدية العليا في الولايات المتحدة في المرحلة الحالية تتمحور حول مشكلة تدهور النشاط في قطاع الإسكان في ظل أزمة الائتمان العقاري، التي عصفت بالقطاع المصرفي في الربع الرابع من عام 2007 من حانب، وحول تدهور معدل النمو في الاقتصاد الأميركي في الربع الأخير من العام الماضي، والذي بلغ أدنى مستوياته في العامين المنصرمين، حيث سجل 0.6% فقط، مقابل 2% في الربع المقابل له من عام 2006، من جانب آخر.

ورغم أهمية هذين العاملين وخطورتهما، فإنهما لا يشكلان من وجهة نظري، ووجهة نظر عدد من الاقتصاديين، حتى في الولايات المتحدة ذاتها، أرضية قوية لهذه القرارات المالية والنقدية سواء من حيث قوتها أو سرعة وتيرتها، فالمحور الأول المتعلق بأزمة الائتمان العقاري، لا ينذر بمشكلة مصرفية عميقة، إذ يستدل من بيانات وقرارات أغلبية المصارف الرئيسية الأميركية على أنها قادرة على استيعاب المصاعب المالية التي تواجهها من جراء هذه المشكلة خلال مدى ربعين سنويين أو ثلاثة أرباع على أكثر تقدير.

أما المحور الثاني المتعلق بأداء الاقتصاد الأميركي فلا يبدو هو الآخر حاسما. فقد بلغ معدل النمو الاقتصادي الأميركي 4.8% في الربع الأول من عام 2006، ثم أعلى من 2% في الربع الثاني 2006، و1% في الربع الثالث 2006، قبل أن يرتفع مجددا إلى 2% في الربع الرابع 2006، وينخفض إلى نحو 0.5% في الربع الأول من عام 2007، ثم يقفز من جديد إلى نحو 4% في الربع الثاني 2007، وإلى نحو 5% في الربع الثالث 2007، قبل تراجعه إلى 0.6% في الربع الأخير من العام. إذن نمو الاقتصاد الأميركي قد اتسم بالتذبذب خلال السنوات الأخيرة. ويوفر هذا التذبذب أرضية للاعتقاد بأن ضعف معدل النمو في الناتج المحلي الإجمالي في الربع الأخير من العام الماضي ليس مؤشرا كافيا على بدء الركود الاقتصادي في الولايات المتحدة، فقد يشهد الاقتصاد الأميركي تحسنا في الربع الثاني أو الثالث من العام الحالي.

صحيح أن جعبة مجلس الاحتياطي الفدرالي مليئة بمؤشرات أخرى، وبيانات مالية قد يتسم بعضها بمحدودية التداول، وأن قراءته لهذه المؤشرات والبيانات تتم بقدر عال من الاحتراف والمنهجية الرصينة، إلا أن السرعة حرّكته في الأيام الأخيرة والمتناغمة إلى حد كبير مع حركة البيت الأبيض ووزارة الخزانة الأميركية في ذات الاتجاه، قد تثير بعض التساؤلات عن مدى استقلالية سياسة هذا الجهاز الفني العريق، أي مجلس الاحتياطي الفدرالي، عن البيت الأبيض، خصوصا أن الولايات المتحدة تقترب من حسم خيارات حزبيها الرئيسيين الجمهوري والديموقراطي بالنسبة إلى مرشحيهما لمنصب رئيس الولايات المتحدة في انتخابات نوفمبر المقبل.

لا شك في أن كلا من الحزب الديموقراطي والحزب الجمهوري يتطلع إلى اقتصاد أميركي قوي، ولكن كلا منهما يريد أن يقنع الناخب الأميركي بأن سياساته الاقتصادية الحصيفة هي التي حققت هذه القوة الاقتصادية. ولا يختلف اثنان على أن الاقتصاد الأميركي القوي يصب في الوقت الحاضر في مصلحة المرشح الجمهوري لانتخابات الرئاسة المقبلة، بينما يصب الاقتصاد الأميركي الضعيف في مصلحة المرشح الديموقراطي.

ولعل خروج الحزب الجمهوري عن نمط سياسته المحافظة المعهودة التي تخشى التضخم النقدي، ولجوئه إلى استخدام مكثف للسياسات الاقتصادية التوسعية التي تفاقم مخاطر التضخم، خصوصا في ظل ارتفاع قياسي في السعر الاسمي للنفط الخام، وانخفاض قياسي في سعر صرف الدولار، يدل على الأولوية المطلقة التي يحظى بها الاقتصاد الأميركي القوي في الأجندة الاقتصادية للحزب، وبأي ثمن.

ولا يملك الديمقراطيون وهم الأكثرية في مجلسي الكونغرس والشيوخ حزما بديلة لهذه السياسة التوسعية، فهم دعاة النمو الاقتصادي والتوظف الكامل، ولم يعد في وسعهم الوقوف بقوة في مواجهة قرارات وحزم البيت الأبيض الاقتصادية. كما أن بعض الفعاليات لا تخفي مخاوفها من أن يكون مجلس الاحتياطي الفدرالي، القوي والمستقل تاريخيا إلى درجة كبيرة عن مجريات الحراك السياسي الداخلي، قد صار هو الآخر طرفا، وربما بغير إرادته، في اللعبة السياسية في الولايات المتحدة.