لقد استطاع مغنية أن يخفي وجهه خلف أفعاله، وأن يخفي جسده البشري خلف الهالة التي صنعت له، وأن يخفي عاديات عيشه خلف الوجوه والصفات الكثيرة التي أطلقت عليه، والأرجح أن ظروف الرجل الشخصية أثرت في مسلك «حزب الله» على المستويين الأمني والعسكري وطبعتهما بطابعه الشخصي.

Ad

قبل أن يتم اغتيال عماد مغنية كانت تحاك حوله شائعات كثيرة، في لبنان كان ثمة رأي متداول، في أوساط بعض المطلعين على أحوال «حزب الله» الداخلية، يقول إن عماد مغنية هو حاكم «حزب الله» الفعلي، وإن أحداً لا يستطيع أن يخالف مشيئته. لكن هذا التقدير لم يكن يشفع بأي حجج منطقية. إذ كيف يعقل لرجل مختف عن الأنظار، ويعيش متنقلاً بين طهران ودمشق وضاحية بيروت الجنوبية أن ينافس رجلاً بشعبية السيد حسن نصرالله أمين عام «حزب الله»؟ لم تكن الإجابة عن هذا السؤال ممكنة، ولم يكن السائل يتوخى إجابة وافية عن سؤاله. جل ما كان يريده السائل أن يضع السؤال موضع الحجة المفحمة، أي التساوي مع محدثه المتأكد من مكانة مغنية الكبيرة والخطيرة في الجهل بهذا الموضوع.

كان اسم عماد مغنية يحضر في أوساط المتابعين لشؤون «حزب الله» في اللحظة التي يدور الحديث فيها عن غموض ما يدور داخل الحزب ومتانة شبكاته الأمنية وصعوبة اختراقها، والأرجح أن لتاريخ عماد مغنية الشخصي دوراً في الصورة التي يظهر عليها «حزب الله» من هذه الناحية. إذ اختار الرجل الذي قادته ظروفه الشخصية والتحولات الكبرى والهائلة في مسالك الحرب الأهلية اللبنانية ومعارجها في ثمانينيات القرن الماضي، أن يختفي عن الأنظار ويمتنع عن التعليق. لم يكن يرد اتهاماً، ولم يصدر في تاريخه بياناً، ولم يحاول تجميل صورته أو إعادة تظهيرها، حتى حين تسنى له ذلك في أعقاب انتهاء الحروب الأهلية اللبنانية مطلع تسعينيات القرن الماضي، انتهت الحروب وخرج أبطالها وسفاحوها إلى العلن، لكن عماد مغنية بقي متخفياً. قيل عنه إنه سفاح وإنه قاتل لا يرحم، وكثيراً ما نسبت إليه أفعال يصعب تصديق نسبتها إليه، لكنه مع ذلك آثر أن يبقى في الظل وأن يستمر في عمله المعتاد، رجلاً يعرف كيف يختبئ خلف الشائعات التي تدور حوله، لقد استطاع مغنية بسبب من هذه الهالة التي أحيط بها، أن يعيش عيشة عادية في ضاحية بيروت الجنوبية لأن أحداً لم يكن يستطيع أن يصدق أن الرجل الذي يسكن بجانبه، أو يمر بسيارته قريباً منه، يمكن أن يكون عماد مغنية نفسه، فالثعلب أصبح ثعلباً لأنه لا يرى ولا تلحظه عين، وليس ثمة من يصدق أنه يأكل ويشرب ويقود سيارة ويقضي بعض وقته عند بائع خضار.

لقد استطاع الرجل أن يخفي وجهه خلف أفعاله، وأن يخفي جسده البشري خلف الهالة التي صنعت له، وأن يخفي عاديات عيشه خلف الوجوه والصفات الكثيرة التي أطلقت عليه، والأرجح أن ظروف الرجل الشخصية أثرت في مسلك «حزب الله» على المستويين الأمني والعسكري وطبعتهما بطابعه الشخصي. فعلى نحو ما عاش مغنية صامتاً ومتخفياً خلف الشائعات التي تحاك عنه، عمد «حزب الله» إلى الصمت وعدم التعليق حول ما يشاع عنه، ولم تنجح محاولات حثيثة لجره إلى التعليق على ما يجري في داخل الحزب لا في المجال السياسي، ولا في المجال الأمني والعسكري طبعاً.

عماد مغنية ليس الوحيد الذي لا يعرف له وجه أو مسؤولية في «حزب الله»، فالذي خلفه في منصبه أيضاً ليس سافراً، وكذلك فإن قلة من اللبنانيين عرفوا أن الحاج علي ديب الذي اغتيل في أواخر التسعينيات في صيدا بجنوب لبنان، كان مسؤولاً عسكرياً كبيراً في «حزب الله». وحتى اليوم لا يعرف اللبنانيون ما كانت مسؤولياته بالضبط، رغم أن قلة منهم يعرفون أنه من مجايلي مغنية ومزامليه في حركة فتح في أوائل الثمانينيات. علي ديب الذي اغتيل أيضاً بعبوة ناسفة عند مرور سيارته في جنوب لبنان هو قائد كبير من قادة «حزب الله» العسكريين، لكن الإضافات على هذه الصفة تكاد تكون صفراً.

لذلك فإن قول السيد حسن نصرالله أمين عام «حزب الله» إن عماد مغنية أنجز ما يفترض به إنجازه في «حزب الله» ولم يكن قد تبقى له إلا القليل لينجزه قبل اغتياله، يبدو مفهوماً في هذا السياق. ذلك أن قادة «حزب الله» الأمنيين والعسكريين جميعاً يشبهون مغنية في تكتمهم على مهماتهم، وفي تحجيب وجوههم عن وسائل الإعلام. وثمة في لبنان من بات يعتقد أن الوجوه التي تطل على الشاشات من قادة «حزب الله» ومفوهيه لا يملك أصحابها قوة التقرير والفعل في الحزب، وأن القرارات الكبرى تصنع في الخفاء والسر، ويصنعها أولئك الذين رباهم عماد مغنية على يده وعلمهم العيش من دون وجوه ولا صفات.

* كاتب لبناني