يستطيع الجنرال مشرف البقاء في الحكم مدة جديدة شريطة أن يلعب بأوراق السياسة وحدها وليس بعصا الجنرال العسكري هذه المرة ويقبل بورقة التنازل من دون كبرياء النياشين ويقبل بتقاسم السلطة بين الترويكا «الأعداء».

Ad

عاشت باكستان سبع سنوات «عجاف» منذ انقلاب مشرف عام 1999، فكان على الجنرال في «متاهته» كما كتب غارثيا ماركيز روايته، أن يدرك لعبة الانقلاب على المدى البعيد، فليس من الصعب القيام بانقلاب عسكري في بلد تميز بالانقلابات، إنما الصعب هو إدارة دولة مدنية تؤمن بالتعددية الحزبية في مجتمع مشحون بالتناقضات.

مرت من تحت الجسر الباكستاني مياه جارفة، كادت تطيح بأعمدته الهشة، فتفجيرات الحادي عشر من سبتمبر 2001، فتحت الفضاء الباكستاني والأفغاني، لمطاردة عناصر «القاعدة» و«طالبان» المقهورة، من مواقع تورا بورا حتى جبال وقبائل وزيرستان المضطربة، في مناخ وتطورات دراماتيكية سريعة، لم تكن في أجندة الجنرال حينما خطط للانقلاب، ولكنه بعدها صار أمام حقيقة مقولة «تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن» ويا لها من رياح عاتية!

فقد عاش الجنرال-الرئيس وحكومته الجديدة، أمام محك تاريخي صعب، كان عليه أن يجتازه ليس كعسكري صارم ومنضبط وحسب، بل كرجل دولة وسياسي ماهر قادر على اللعب بأوراق سياسية والتحرك ما بين أطراف التناقض أيضاً، فمن جهة استطاع اجتذاب اتجاهات مهمة في القبائل، مثلما نجح في إحكام قبضته على المؤسسة العسكرية مستفيداً من الدرس التركي في حضور المؤسسة العسكرية كرقيب على المجتمع المدني، حضور البدلات الكاكية والنياشين على قوة الدستور ودولة القانون، وبهيمنة الطوارئ على ديموقراطية مقننة بإجراءات أمنية مشددة، فبدت باكستان خليطاً من التجارب المشوهة للديموقراطية في دولة نامية.

لم ينجح خصوم الجنرال في اقتناصه، وهو يمر برجاله وسيارته المموهة، وإذا ما نجح مشرف في الحفاظ على النظام في بلد مضطرب، فسيقع بين أنياب داخلية مفترسة تحاصره كل يوم بالاحتجاجات وتعكر صفوه، كما هي القوى والتيارات الإسلامية المتشددة، والتجمعات الإثنية من جهة، وحزبا الشعب (بنازير بوتو) والرابطة الإسلامية (جماعة نواز شريف) من جانب آخر، علاوة على أوضاع دولية في الجوار كمشاكله الحدودية مع أفغانستان وإيران، باعتبارهما منافذ للإرهاب، وضغوطات الأصدقاء التاريخيين كبريطانيا والولايات المتحدة. فلكل طرف من هذه الأطراف أجندته السياسية ومصالحه الاستراتيجية، إذ لم تكن بريطانيا منذ البداية مع الانقلاب، فقد أطاح مشرف بنواز شريف رئيس الوزراء، وأطاحت المؤسسة العسكرية بالمؤسسة الدستورية والمدنية والشرعية، وبصديق وحليف لبريطانيا، تربطه بها علاقات حميمة، لهذا عارضت الانقلاب بقوة وتم تعليق عضوية باكستان في دول الكومنولث، ولولا أحداث سبتمبر، التي قلبت موازين الأولويات والتحالفات لظلت مسألة عزلة باكستان قائمة، فقد باتت مناهضة الإرهاب من أولويات القضايا العالمية، خاصة في منطقة تشكل بؤرة للتفريخ والتصدير.

كما لم تكن بريطانيا راضية عن ضغوط مشرف على رئيسة وزراء حزب الشعب بنازير بوتو، فقد فتح يومها مشرف نيرانه على القوى الأكثر تقاربا مع الغرب، بنزعتها الليبرالية والتنموية ومواقفها الدولية الصديقة، بخلاف تلك التيارات الإسلامية المعادية للغرب والولايات المتحدة، في وقت راح مشرف يعيد حساباته الداخلية مع الإسلاميين، خاصة وسط المؤسسات العسكرية والأمنية ومنطقة القبائل، إذ كانت هذه التكتيكات ورقته في تأييد الانقلاب وانتخابات عام 2002.

ولم تكن الولايات المتحدة بعد أحداث سبتمبر راضية عن الجنرال مشرف، الذي انطلقت من أراضيه قفازات الإرهاب السوداء، وشكلت بلاده نقطة ارتكاز دولية لعناصر «القاعدة» بنفوذها وقوتها المتغلغلة، فكان على مشرف أن يعيد حساباته في تلك اللحظة بين الوضع المتشنج في الداخل والضغط المتواصل من الخارج، فأعلن فور أحداث سبتمبر وضرب أفغانستان أنه الشريك الثابت مع الغرب في ملاحقة الإرهاب، فقد رأى أن بوصلة التهديد والخطر تتحول بقوة الى الداخل، فلم تعد قضية كشمير الورقة السياسية المهمة بين الهند وباكستان، فقد تدخلت الولايات المتحدة بعد سبتمبر، كوسيط لتخفيف التوتر الحدودي والنووي والمسألة الكشميرية، وانطلقت الدولتان في تنسيقهما نحو عدو جديد مشترك هو الإرهاب.

لم تهدأ باكستان منذ أحداث سبتمبر، وعلى مشرف أن يعيد ترتيب اللعبة القادمة، فلا يمكن أن يواصل الجنرال إدارة البلاد بعصا العسكر ويئد الدستور كل يوم بإجراءات الطوارئ والأمن، إذ حان الوقت لإعادة النظر في الحوار مع أهم خصمين ليبراليين في البلاد، هما بنازير بوتو ونواز شريف، فلدى كل طرف نسبة مهمة من مقاعد البرلمان، وفي تلك المقاعد وترويكا التحالف، يستطيع الجنرال البقاء في الحكم مدة جديدة، شريطة أن يلعب بأوراق السياسة وحدها وليس بعصا الجنرال العسكري هذه المرة، ويقبل بورقة التنازل من دون كبرياء النياشين، ويقبل بتقاسم السلطة بين الترويكا «الأعداء»، وبترتيب البيت العسكري، فهي وحدها ضمانته ومظلته الأساسية في هذه اللحظة التاريخية من انتخابات أكتوبر 2007، حتى إن كانت على مضض، المهم أن يكون العدو والصديق هذه المرة صورة ترسمها واشنطن ولندن والأصدقاء في الخليج. تبقى المسألة الأكثر أهمية، وهو أن الانتصار في الانتخابات لن يغير الأرض السياسية المضطربة في باكستان، ولن يفتح لها آفاق الاستقرار نهائياً.

* كاتب بحريني