محمود شريح

في كتابه «المحادثة: تاريخ فنّ يأفل» يرد ستيفن ميلر الاعتبار الى ظاهرة أدعية تكاد تنقرض، رغم انها بسيطة ولا تتطلّب جهداً. في البدء ما قاله الفرنسي مونتين في القرن السادس عشر: «التمرين الأعم فائدة والاكثر طبيعة لعقلنا هو المحادثة. دراسة الكتب حركة واهنة فاترة، فيما توفر المحادثة تثقيفاً وتمريناً في آن. عقلنا يقوى بتماسّه مع العقول المنظّمة والحيوية». كان مونتين يطالب الناس بمهاجمة آرائه ووجد ان الاتفاق مملّ ومحبط فكرياً، وإن رأى ان قليلين يستحقون المعارضة.

Ad

لكن مونتين أسقط من حسابه اولئك المثقفين المدّعين الذين يحفظون مقولات عن ظهر قلب فيرددونها مثل ببغاوات من دون تمحيص وتدقيق او مناقشة جدلية وبرهان منطقي. وأعلن ان السبب الرئيسي لقصور المحادثة هو ان الناس يتخذون موقفاً دفاعياً منذ البداية متى وضعت وجهات نظرهم على المحك. أما المفكّر الانكليزي جوناثان سويفت في مقالته «تنويهات نحو مقالة عن المحادثة» فحذا حذو كتّاب فرنسا في القرن السابع عشر وألحّ على ان الأحاديث تحلو بوجود الجنس اللطيف, وأن الجدال ألدّ أعداء المحادثة. وعُرف عن شاعر الالحان غوته انه كان محدّثاً لبقاً ومنصتاً وعن لقائه بمدام دي ستايل قال: «كانت ساعة شائقة فلم أقوَ على التفوّه بكلمة تتحدّث بطلاقة ولوقت طويل».

ثم يتساءل المؤلف: وهل هناك من متحدّث يجيد الإصغاء؟ يردّنا الى ما قاله الفيلسوف الانكليزي المعاصر جلبرت رايل عن زميله برنارد وليامز: «وليامز يفهم ما تقوله اكثر مما تفهمه أنت نفسك، ويرى كل الاعتراضات المحتملة وكل الاجوبة الممكنة، لكلّ الاعتراضات الممكنة قبل ان تنهي جملتك». لكن هل نحن في حاجة الى المحادثة. الاجابة عند الروائي الانكليزي فيلدنع في «طوم جونز» (1749) إذ قال: «المعرفة الحقيقية للكون تُكتسب من المحادثة. هناك نوع آخر من المعرفة يسمو على قوة التعلّم، انه المحادثة. هي ضرورة لفهم طبائع البشر وهي طبائع لا يجهلها اكثر من اولئك المتعلمين المتحذلقين الذين صرفوا أعمارهم في الجامعات وسط الكتب».

سفر أيوب

ويردّنا المؤلّف تاريخياً الى فجر المحادثة فيجمد في سفر أيوب نموذجاً أعلى لهذا الفن الرفيع، ذلك ان السفر ضرب من الاستنطاق فأصحاب أيوب يلحّون عليه ليقرّ بذنبه: أليفاز التيماني وبلدد الشوحي وصوفر النعماني وهو نفسه يحادث ربّه: «فلماذا أخرجتني من الرحم. كنت قد أسلمت الروح ولم ترني عين. فكنت كأني لم أكن فأقاد من الرحم الى القبر. أليست أيامي قليلة. أترك. كفّ عني فأتبلّج قليلاً. قبل ان أذهب ولا أعود. الى ارض ظلمة وظلّ الموت». وحين لا تتغير لهجة التقريع عند صحبه ييأس ايوب فيحادث خالقه: «لا تستذنبني افهمني لماذا تخاصمني. أحسنٌ عندك ان تَظلم ان تُرذلَ عمل يديك وتشرقَ على مشورة الأشرار». ويمعن في اليأس: «روحي تلفت. أيامي انطفأت. إنما القبور لي». يرى المؤلف ستيفن ميلر ان سفر ايوب قصٌّ يتعاطف مع كائن يتعذّب، ولما صفح عنه الرب في نهاية الكتاب خاطب صديقه أليفاز التيماني على النحو الآتي: «قد أحتمي غضبي عليك وعلى صاحبيك لانكم لم تقولوا فيّ الصواب كعبدي أيوب».

المرج الآخر الذي يتخذه المؤلف نموذجاً أعلى لفن المحادثة هو حوار أفلاطون «المأدبة» الذي حبّره هذا الفيلسوف بحدود العام 380 ق.م أي غير بعيد زمنياً عن ظهور سفر أيوب بحدود ما بين 600 و400 ق.م. «المأدبة» احتفال بسقراط. مجمل الحديث يدور على إله الحب (إيروس): أليس بيادس جنرال وسياسي آثيني يبدي إعجابه بفلسفة سقراط ويشير الى قوة سقراط الايروتيكية. الحوار بأكمله شاغله مفهوم الحب. وسقراط هو نموذج المحادث الأعلى، لفهمه ووعيه جدلية المناقشة. أعجب بأسلوبه هذا مونتين وهيوم. أما شيشرون فوجد فيه الدليل الى المحادثة.

ثم يتساءل الباحث: هل تنتمي النسوة الى عالم المحادثة. يردّنا الى أديسون وسويفت وهيوم وجونسون القائلين بضرورة إشراكهّن. أما شافتسبري فعارض لأن تفكيرهن خلوٌ من المنطق. فيما رأى سويفت ان حضورهن يغذي المحادثة. وقال جونسون إنهن على كفاءة واحدة مع الرجال. وحثّ هيوم على التمثّل بالفرنسيين الذين لا يجاريهم شعب في فنّ المحادثة الذي ينأى عن حمّى التعصّب الديني ويشرك النساء بالمناقشة ويأخذ بآرائهن. ثم يستعرض الكاتب أثر المقاهي على تطوير فنّ المحادثة ودورها في رعاية المناقشة عبر التاريخ فيتفق مع الرأي القائل ان ظهور المقاهي بدّل التنظيم الاجتماعي للمدينة، إذ نشأ بين ظهرانيها حسّ بالإلفة قائم على المحادثة والمناقشة. وفي مقاهي مدن اوروبا، لا سيما لندن وباريس وفيينا، انتشرت عادة اشتراكها بالصحف والمجلات.

منطق روسّو

على النقيض من ظاهرة المحادثة والاجتماع في المقاهي للمحاورة وقراءة الصحف، عمّ شعور لدى البعض بالانكفاء والوحدة والعزلة فكان التوجّه الى البحث عن السكينة في أحضان الطبيعة. وفي هذا المجال ردّ اعتبار الى روسّو الذي تفرّد بنفسه متنزّهاً في الغابات بين الازهار والرياحين، فيما انصرف ليلاً الى تحبير اعترافاته التي هزّت أجناس الادب وأنواع الطبيعة. هجر باريس لينطق بالصدق وليس ليرضي صحبه في المحادثة، إذ آمن بأن الكائن الاجتماعي منشغلٌ بالمظاهر فيغلّب العرض على الجوهر، منطق روسّو انه كلّما كان المجتمع مهذباً كلما كان مُفسداً، فصاحب المبادئ والمستقيم لا يزدهر وجوده في ذلك المجتمع. وجد روسّو انه لو كان عليه ان يحبّ الجنس البشري اقتضى ذلك منه ان ينعزل عنه فالجنس البشري المعاصر في نظره فاسد ومدعاة للشفقة. وعلّق على ذلك بقوله: «لم أكن يوماً ملائماً للحياة الاجتماعية فليس فيها سوى فرض الواجب المزعج وأنا شخصيتي مستقلة الى حدّ يجعلني غير قادر على الإذعان للقيود المتفق عليها للعيش في المجتمع».

مقت عالم المحادثة

وفي انكلترا حذا حذوه توماس غراي الشاعر الذي مقت عالم المحادثة ووجد لندن «مكاناً متعباً وضجراً». ففي رسائله وقصائده اعتزّ بعزوفه عن الاجتماع ولم يجد في المقاهي سلوى، خاصة انه كان يمتعض من الجالسين فيها. كان يحبّ التنزّه منفرداً في الريف ويعشق رحلاته في جبال الألب، ومع ذلك كان محدّثاً موسوعياً ولبقاً متى دعت الحاجة. وجاءت قصيدته المشهورة «مرثاة مكتوبة في ساحة كنيسة» تعبيراً عن رفضه عالم الغرور وابتعاده عن الجماهير الصاخبة فاتصل من حيث لا يدري بتسامي ملتون وتناغم بوب. ثم يتناول المؤلف حياة فيرجينيا وولف وصالونها الأدبي المشهور كل خميس والحديث ذو شجون من الجنس الى الأدب.

في الفصل الاخير من «المحادثة» يدعو الكاتب الى إحياء هذا الفن وسط امعان العالم التكنولوجي المعاصر في الابتعاد عن المناقشة فالهاتف الجوّال والانترنت والفيديو وما تشعّب عنه من أفلام وألعاب، كلها أرست برازخ بين الآدميين فيلحّ على ضرورة الاستماع والمحادثة ففيهما علاج طبيعي للنفس ممّا علق بها من آثام وشرور.