أقمشة الحرير التي تلقى مديحاً في الوسط الاجتماعي، باتت قناعاً من اقنعة الثقافة في الرواية والشعر بل في الحب أيضاً. فالروائي الإيطالي أليساندرو باريكو اشتهر من خلال روايته «حرير» التي ترجمت الى العربية في أربع ترجمات مختلفة، الأولى لعلي سعد لدى دار «المرساة» في سوريا والثانية لفواز طرابلسي لدى دار «المدى» والثالثة لاسكندر حبش لدى دار «الجمل» والرابعة لمحمد عيد إبراهيم لدى دار «اشراقات». واختار الشاعر المصري عماد فؤاد «حرير» عنواناً لديوانه الجديد الذي صدر لدى «دار النهضة» وقبله صدرت رواية «الفراشة الزرقاء» لربيع جابر لدى «المركز الثقافي العربي» وتتحدث عن الحرير في جبل لبنان إلى رواية «حارث المياه» لهدى بركات لدى «دار النهار» وتتناول في جزء منها تجارة الحرير وموتها... الأرجح ان حماسة الكتاب والشعراء للحرير تتعلق برمزيته وحكاياته الكثيرة في الوسط الشعبي. هكذا تقول ثنايا الكلمات وهكذا يعبر ابطال الروايات و{طريق الحرير». ما نريده من مضمون الكتب التي ذكرناها هو جانب من الحب في زمن الحرير أو جانب من رمزية الحرير في الحب في معناه الواقعي والمتخيل. تكشف رواية «حرير» لباريكو حكاية غرام تاجر فرنسي عمل في تجارة ديدان القز خلال ستينات القرن التاسع عشر. كانت بلدة لافيلديو موطن صناعة الحرير آنذاك، لكن ديدان القز أصيبت بوباء «التفلفل» وانهارت الصناعة فانطلق بطل الرواية هيرفي جونكور في رحلة غير شرعية إلى اليابان لتهريب الديدان من هناك. وتدور الدائرة. يكتب باريكو بشكل حسي شفاف لطيف. يقطع الرواية مجزءات صغيرة تتراوح بين صفحة أو أكثر قليلاً. يميل إلى الحسي أحياناً، لكن بصورة الشعري ضمن الحكاية. بينما يتوغل عماد فؤاد في عالم حسّي في رؤيته الخارجية، وسرعان ما نعثر على خيط اتصاله الرهيف إنما العميق بالروح. يكتب بسبب الحب وفي مديح ما يصنعه الحب اذ يستهّل المجموعة بمدخل يسميه «أول الخيط»: «أعرف رجلاً/ يسأل نفسه كل صباح/ ما الذي يريده رجل من امرأة/ كلما همّت بمسّ حريرها/ أنّت في قلبه/ دودة القزّ». يعيد صوغ علاقات الحب باعتبارها عملية نسيج مبهرة تولد يوماً بعد يوم كما في «الحرير».الحرير بين باريكو وعماد فؤاد توق نحو الحب ومكنونه. يريد عماد فؤاد تعميم فكرة الحب على كائنات وتفاصيل أخرى ربما لم نلتفت إلى ما بينها من علائق منشغلين عنها بتفاصيلنا الذاتية. بينما نحس في رواية باريكو بأن بطل الرواية يتوق الى اتحاد كامل مع حبيب مفترض. تنقلنا روايته الرائدة إلى صراعات جيل مضى في قرن مضى وقارة أخرى بعيدة لنعيش تجربة مختلفة وحياة غرائبية مع شخوص الرواية التي يمكن أن نقول إنها مكتوبة بأنفاس شاعر يسعى إلى تحقيق نفسه من خلال السرد.تصبح رحلات البحث عن دود القز قرينة المغامرة التي تحيط بها الأخطار والمنازعات، لكن عيني تلك المرأة اليابانية تزيدان بطل رواية باريكو حماسة للمغامرة. فرغم التحذيرات حيال رحلاته يبحث عن «المرأة» لا عن الحرير. وحين يستفسره احدهم عن سر تعلقه بذاك الأرخبيل الياباني ومغامراته في الذهاب الى هناك يعترف له بحبه الغامض مختصراً الحكاية بالعبارة الآتية: «لم أسمع حتى صوتها. إنه نوع غريب من الألم أن تموت حنيناً إلى شيء لن تختبره قط». تشعر زوجته بتبدل مزاجه، تعرف انه مزاج الحب فتصنع له الأمل إذ ترسل إليه رسالة باليابانية من تلك المرأة البعيدة التي يعشقها. وحين ترحل الزوجة المخلصة يكتشف الزوج والعاشق في آن أن زوجته هي التي أرسلت إليه تلك الرسالة، مستعينة بمدام بلانش التي تتقن اليابانية وتعيش في بلدة قريبة من لافيلديو. هذا الاكتشاف يعيد إليه بعض التوازن إذ «أمضى السنوات التالية من حياته ملتزماً بنمط رجل يمضي نهاراته وفق نظام من المشاعر المحسوبة. كان يشع منه الهدوء الذي لا يقهر لرجل متصالح مع نفسه». وصار يروي، على غير عادة، وهم قلبه ببطء لزواره فيكتشفون معنى الحكاية.أرامليرتبط الحرير بالإغراء والعشق والنساء. نقرأ في رواية «الفراشة الزرقاء»: «قبل زواجها كانت تدعى زهية ميشال عبود. وبعد الزواج بات اسمها زهية حداد. حين مات جدي تحول اسمها فورا الى ارملة سليم حداد. هذا الاسم الأخير كان جزءا من شماتة البلدة بها. زمن الحرير له قصصه الشائقة، خاصة علاقة النساء بديدان القز». هذا ما يكشفه ربيع جابر في روايته، إنه سحر رواد التاريخ اللذين كتبوا عن جبل لبنان وعن كرخانات الحرير. من يراجع هوامش التاريخ يعيش مسحورا. للحظة يفكر في الكتابة او حياكة قصة على منوال حياكة الحرير نفسه.الحكي والحياكةرواية «حارث المياه» لهدى بركات ليست حكاية الحرير فحسب، بل حكاية القماش وبيعه وتخزينه ونهاية هالته. تسأل بطلة الرواية لماذا لم تعلمني الحرير؟ -لان الوقت لم يحن بعد. قلت ان للحرير حكايات كثيرة، علمني الأولى وسانتظر. سأفعل ذلك قريبا جداً». في الرواية يختلط الحب بالقماش والحكاية بالحب. يسأل الراوي بطلة الرواية ان كانت ستبيت عنده فتقول: «هذا يتوقف على الحكاية. إن اغواني السماع بقيت. ان اغوتني المعرفة». الحكاية هي السر في نسيج العلاقات. وللحرير حكايات كثيرة كما تعلم بطلة الرواية. يقول الراوي هذه الليلة اروي لك الحكاية التي ستقودنا الى الحرير. فلكي ندخل في ذلك الفصل الاخير علينا التسلح بمعرفة خاصة واسعة، تقوي فينا قدرة التلقي فلا نقع ضحية سحرها. فالمعرفة خطر على الجاهل غير المهيأ لتلقيها، اذ لا يقتصر الامر على فوات الفهم وضياع اللذة... نبدأ من البداية - كما يقول أبي- من حيث انطلقت هجراتنا الى جهات الارض كافة، من سواحل غرب القارة الأفريقية. حيث يروي حكماء قبائل الوغو ان الرب- وهو الكلمة الخالقة- كان في اول عمليات خلق العالم نفحة أوجدت النباتات ذات الألياف والحيوانات ذات الفراء والزغب، وهي التي كست جلودنا قديماً. اما كلمة الرب المكونة من أحرف مترابطة، الملفوظة بكامل الفم، فتعود الى الجني الرابع اوغو الذي تمرد على الرب بدعم من العنكبوت الذي أغوته في الشجرة. العنكبوت الداهية كانت لعينة لكن الشجرة مباركة مؤمنة لذا راحت الشجرة تنمو وتمتد نحو جهات الكون الأربع لتعود فتلتف على العنكبوت، تحد من عنجهيتها واذيتها ثم تخنقها حتى لا يكتمل تمردها في نسجها لسطح الارض. ولا تعود كلمة الرب الى البشر الا بعد تكفير طويل يستمر حتى ولادة الجني السابع وهو جد البشري الجديد، الذي خلقه الرب على شكل نول يحمل كلام الرب الى البشر مجسداً ثمانين خيطاً من القطن، اربعون عليا للسداة تكون المزدوجة واربعون سفلى للنير موزعة كما الاسنان في الفم. والسداة والنير تروحان وتجيئان كحركة الفكين فيما تشكل بكرة الخيط الحلق، اما المكوك فهو اللسان». تقول هدى بركات انه في لغة الدوغو كلمة «سواح» تعني القماش وايضا الكلام، وفي الوقت نفسه تعني الفعل المتجسد... فالمرأة العارية مثلا يقال انها خرساء. اما في العربية فانظري تطابق حروف الحكي والحياكة!طريق الحريريقال ان الحرير مسؤول عن أول طريق تجاريّ يربط الشرق بالغرب في العصور القديمة واسمه «طريق الحرير». سمي بهذا الاسم لان الحرير كان أهم سلعة تنقل عليه وتصل الصين بساحل المتوسط الى عهد ما قبل المسيح حين كانت القوافل تنطلق من انطاكيا او صيدا وتعبر فارس وأفغانستان حتى تصل الى منطقة بأمير حيث تنتصب علامة حجرية تتلاقى عندها القوافل القادمة من الغرب بالقوافل القادمة من طريق حرير في شرق وتتم المبادلات. ومن هنا يتفرع الطريق باتجاه الهند وتركستان والصين. وطريق الحرير «أول اوتوستراد للمعلومات في العالم» أو طريق الحضارات والديانات والفتوحات بحسب كتاب «طريق الحرير» لايرين فرانك وديفيد برانستون. لم تكن الاقوام تكتفي بتبادل السلع بل كانت تتبادل الفلسفات والاديان. لعبت البودية دوراً حاسماً في تلك الطريق وانتشرت من خلالها، لكنها اهملت لسنوات طوال بعد اكتشاف وسائل النقل الحديثة. ورغم أهميتها هذا الجغرافيا الا ان مسارها يبدو غير طبيعي إذ يقع في الصحراء الكبرى في آسيا فالمسافة من البحر المتوسط حتى قلب الصين كلها صحراء والمنطقة في معظمها جرداء وعلى امتداد القشرة الارضية أحيانا تأخذ شكل الهضاب المرتفعة والجبال الشاهقة. ينقل ايرين فرانك وديفيد برانستون عن المؤرخ الاغريقي هيرودوت قوله: {هذه هي حقيقة هذا الطريق، فعلى امتداده تقع محطات البريد الملكية والاستراحات الممتازة وهو يسير في ارض مأمونة. هذه الارض تجري فيها انهار صالحة للملاحة». يتحدث هيرودوت ايضا عن خدمة الرسل عبر هذا الطريق الذي كان على قدر كبير من الشهرة حتى العصور الوسطى، موضحاً انه لم يكن هناك شيء على الطريق يمكن من قطع المسافات اسرع من هؤلاء الرسل وهم نتاج مهارة الفرس. ويقال انه على قدر الأيام التي تستلزمها الرحلة يكون عدد الرجال والخيل الواقفين على الطريق. كل رجل وحصان يقطعان رحلة من الرحلة وهؤلاء لا يوقفهم جليد ولا مطر ولا حرارة ولا ظلمة عن تحقيق ما كلفوا به باقصى سرعة.هامش نقرأ في «الفراشة الزرقاء» لربيع جابر ان الاميرة لاي-تسو، الزوجة الاولى للإمبراطور هوانغ-تي، كانت تتجول في حديقة القصر حين اعجبها منظر الشرانق البيضاء فوق الاوراق العريضة لشجرة التوت. فوجدت نفسها تنزع بعض الشرانق عن الاوراق الخضراء وتحملها الى داخل القصر. في الداخل كان الخدم قد اعدوا لها فنجان الشاي. جلست كي تشربه ووضعت الشرانق الى جانبه على الطاولة. كانت تتفحص الشرانق بإصبعها وبينما تحمل واحدة منها سقطت الشرنقة في كوب الشاي الساخن. والذي حصل ان الخيط انحل في الكوب، وان المادة الصمغية ذابت عنه في المياه الساخنة. وحين امسكت بطرف الخيط مستخدمة عوداً واخذت تسحبه من الكوب أدهشتها نعومته. هكذا اكتشف الحرير. وقام الصينيون بحراسة سرهم هذا حتى عام 552 ق.م. ففي تلك السنة ارسل الإمبراطور البيزنطي راهبين من النساطرة الى بلاد الصين لاكتشاف سر الحرير. في الغرب كانوا آنذاك يحسبون ان الحرير هو شجرة تنبت في الصين فقط. والراهبان اكتشفا الحقيقة وقاما بتهريب البيوض من الصين مستخدمين القصب.
توابل - ثقافات
الحرير وطريقه في الأدب قناعٌ للرواية والعشق
07-10-2007