Ad

المحيط الإقليمي اللصيق بالكويت اليوم يتقدم باطراد في ذات الطريق الذي كانت تتصدره سابقاً، ويعتمد طرقاً وأساليب كانت الكويت بادرت إليها منذ نحو نصف قرن.

«للمرة الأولى ألتفت يميناً ويساراً وإلى الوراء عند دخولي إلى البيت ليلاً، ولم يخطر في بالي أن أفعل ذلك في الكويت أبداً». العبارة السابقة لصحافي كويتي شاب، كتبها تعليقاً على ما حدث للزميلين بشار الصايغ وجاسم القامس. وهي وإن كانت تبدو صادمة بعض الشيء، وربما تحمل قليلاً من المبالغة، إلا أنها تصف، بشكل أو بآخر، تداعيات تصرفات «أمن الدولة» بحق الزميلين على الحياة الصحافية والحالة الكويتية عموماً.

وبرغم تزامن ما حدث للصايغ والقامس مع مشكلات أخرى عديدة نتج معظمها عما نسب إلى أجهزة الأمن من إساءة في التصرف واستخدام السلطة؛ كمشكلة أعضاء «حزب التحرير»، والأزمة الناتجة عن «تعرض وافدين مصريين للتعذيب في زنزانة مباحث هجرة العاصمة»، فإن موضوع المس بالحريات الصحافية عموماً وبالصحافيين خصوصاً، يطرح تحديات أخطر على ما يمكن تسميته بـ «التفرد الكويتي»، الذي ظل زمناً محل فخر واعتزاز في الداخل وتقدير واحترام في الخارج.

فالكويت ظلت رقماً صعباً في المنطقة وكياناً فريداً بقيم وتقاليد ونظام اجتماعي ذي رشد نادر لعقود طويلة؛ وكان في القلب من تلك القيم ذلك التسامح النادر (إقليمياً) مع حرية التعبير من جانب السلطة، في مقابل الحس المسؤول من قبل الإعلاميين وتعبيراتهم الإعلامية.

ومن ذلك أن عرفت الصحافة الكويتية مبكراً أفق حرية نادراً مقارنة بما كان يعتمل في دول الجوار اللصيق من إرهاصات أولية بدائية ومدرسية وبعيدة كل البعد عن المعايير الاحترافية، وبما كان يتفاعل في دول الحكم الشمولي من وأد منظم لأي ممارسة إعلامية تتجاوز الأسقف الشديدة الانخفاض.

كانت الكويت وسط هذا وذاك واحة بحق في صحراء ممتدة لم تأخذ من الشمس إلا الهجير، ومنها وفيها برزت الصحف والأسماء اللامعة، وتفجرت القضايا جدلاً ساخناً بين أنداد وأكفاء بصرف النظر عن أيهم يجلس في مقاعد السلطة وأيهم يكتب في الصحف ناشراً آراءه وصوره.

وكان المحيط يضيق، والجيران اللصيقون يتأففون، إذ تضرب الكويت المثل يومياً، وفي أخطر القضايا وأشدها حساسية، على إمكان تحقيق الاستقرار والسلام الاجتماعي والرضا العام في ظل إعلام يتمتع بقدر من الحرية معقول ودولة تعتمد المؤسسة والقانون إلى حد ما.

اليوم، وبرغم تدفقات المال الناجمة عن ارتفاع أسعار النفط المطرد، وبرغم أن الازدهار الاقتصادي حقيقة واقعة لا ينكرها أي منصف؛ فإن الكويت تبدو وقد تخلت عن المبادرة الاقتصادية. فإلى جانب المشكلات الاقتصادية العديدة التي تعانيها البلاد، يبدو الأداء الاقتصادي مفتقداً القفزات الاستراتيجية الكبيرة، ويقف متواضعاً أمام تقدم مبهر في غير مدينة وعاصمة خليجية.

كان للكويت أن تحلم باختراقين كبيرين في إطار المنافسة الإقليمية وربما الدولية؛ أولهما يمكن أن يتحقق من خلال الاقتصاد المدعوم بفوائض كبيرة ورؤى أوسع وأكثر قدرة على المبادرة وترويض الخيال، وثانيهما يمكن أن يتحقق من خلال الدور الثقافي، وفي قلبه التفرد الإعلامي.

ولا شك أن الكويت استطاعت في مراحل كثيرة، خصوصاً قبل الغزو العراقي، أن تتحول مركزاً عربياً لا طرفاً باستحقاق وعن جدارة، وكانت صحفها ودورياتها وإشراقاتها الثقافية والإعلامية تمثل نبراساً وطاقة خلاقة ملهمة لقطاعات من المثقفين كبيرة على امتداد العالم العربي.

وفي الوقت الذي كانت الكويت تعاني فيه تداعيات الغزو العراقي، وما تلاه من محاولة ترميم البيت السياسي وتصفية العديد من الخلافات، كانت دول إقليمية ذات كتل حيوية أصغر، وخبرات أقل عمقاً، وثروة بشرية محدودة عدداً وتأهيلاً تحقق نجاحات مشهودة في المجالين.

المحيط الإقليمي اللصيق بالكويت اليوم يتقدم باطراد في ذات الطريق الذي كانت تتصدره سابقاً، ويعتمد طرقاً وأساليب كانت الكويت بادرت إليها منذ نحو نصف قرن، وفيما ينزع الآخرون نحو اجتراح دساتير وتقنين أعراف وتطوير قوانين، تناقش الجماعة الكويتية اليوم مسألة «تعطيل الدستور».

لا يجب أن تتكرر حادثة الزميلين الصايغ والقامس مرة أخرى؛ ليس فقط لأنها ممارسة لا تليق بالدولة الكويتية وميراثها المؤسسي والقانوني، وليس فقط لأنها لن تجدي أي نفع للقائمين عليها، بل على العكس ستؤدي إلى مشكلات أكبر وأعمق، ولكن أيضاً لأنها لا تليق بالبلد. فليس من الحكمة أن تتخلى طائعاً مختاراً عن أهم مآثرك.

الكويت إذ تشهد ممارسات لا تجري سوى في دول الحكم البوليسي، وإذ ترسل بفرق الاعتقالات، وتسمح بممارسة التعذيب في قضايا الرأي، وتضع قيوداً غير دستورية على حرية التعبير، لا تتخلى فقط عن تفردها في هذا الجزء من العالم، لكنها أيضاً تتخلى عن أحد أهم العوامل التي تستند إليها في أي محاولة لتطوير مكانتها بين الأمم.

*كاتب مصري