مناهج استكشاف المستقبل

Ad

تأليف: إدوارد كورنيش

ترجمة: د. حسن الشريف

الناشر: الدار العربية للعلوم  

أول ما يتبادر إلى الذهن لدى قراءة العنوان أن الكتاب ينتمي الى «الخيال العلمي» أو الى عالم التنجيم وقراءة الكف... وما الى ذلك من أساليب الشعوذة التي تدّعي معرفة الغيب والكشف عن المستقبل. لكن الواقع نقيض ذلك تماماً. فجدّة الموضوع تصدم القارئ، ولا يلبث أن يتأكد من فصل الى فصل، أنه بحث علمي بالمعنى الدقيق للتعبير ولو لم يكن من تقاليد العلم تناول مواضيع من هذا النوع. فكما يلاحظ المؤلّف أنه في السابق كان يُنظر إلى من يتكلمون عن المستقبل كحالمين أو مشعوذين أو مجانين... وكان العاقلون يركّزون على أعمالهم المباشرة، أمّا اليوم فالأمر مختلف. الاستشراف علم حديث إذاً فرضته التطورات العصرية على اختلافها. الحدث الكبير الذي فتح المجال لهذه الأبحاث كان الحرب العالمية الثانية واكتشاف القنبلة الذرية وما تبعها من اكتشافات وانجازات تكنولوجية في مجال الصواريخ والحواسيب فرضت على المفكرين الانصراف الى دراسة التأثيرات المستقبلية للتكنولوجيا في البيئة ومظاهر الحياة بشكل عام وانعكاساتها على سلوك الأفراد والجماعات. فقد أحدثت الثورة العلمية والتكنولوجية تغيرات جوهرية في كل مجالات الحياة، وطرحت قضايا لم تكن مطروحة وهي ما تزال في أطراد متسارع. بعض هذه القضايا: التزايد السكاني وما يستتبعه من مشاكل السكن والمواد الغذائية، النزوح المستمر الى المدن وفقدان التوازن السكاني، الاحتباس الحراري وتلوث البيئة... وغير ذلك الكثير الكثير من القضايا التي تتضخّم وتطرح بإلحاح أكثر فأكثر، مما يفرض على الأفراد والجماعات تبعات جديدة وسلوكاً معيّناً لم يكن معروفاً أو مفروضاً من قبل. والجدير بالذكر أن هذه المتغيرات تهبّ على الانسان المعاصر هبوب العواصف بحيث تهدّد توازنه فيصعب عليه التكيّف بل يستحيل إذا لم يهيّئ نفسه لتقبلها أو مواجهتها. لم تكن هذه القضايا لتطرح في الماضي لأن التطور كان بطيئاً ومحدوداً، فما كان يحدث في بيئة أو مجتمع كان يبقى زمناً طويلاً محصوراً في إطاره، ولا ينتقل إلاّ بعد زمن وعلى مراحل فلا يحدث أية صدمة أو أيّ تاثير كبير مفاجئ. أمّا اليوم فإن وسائل الاتصال والانتقال أصبحت تلفّ الكرة الأرضية جمعاء وتربط أطرافها بأطرافها الأخرى ولم يعد أيّ مكان في مأمن من التأثيرات السلبية والايجابية على حدّ سواء. من هنا الحاجة الملحّة إلى نشوء هذا العلم: استشكاف المستقبل، وضرورة وضع الانسان المعاصر في جوّ ما يجري حوله وتوجيهه نحو واجباته تجاه نفسه ومجتمعه وتجاه الإنسانية جمعاء. فالاستشراف كما يؤكد المؤلف في مواضيع متعددة من الكتاب مهارة تكتسب وليس من أجل التكهن أو من قبيل الترف الفكري ومتعة التخيّل وإن لم يخلُ منهما ـ بل أصبح من العلوم الإنسانية الأساسية كالعلوم الاجتماعية والسياسية والاقتصادية وهو يعتمد على مختلف العلوم كالفيزياء والبيولوجيا... وهو يدرّس في الكثير من جامعات الدول المتقدمة. أمّا الأسلوب المعتمد لمعالجة هذا الموضوع فهو الاستقراء. فالاستقراء يمكنّنا أن نتوقع الكثير من الأخطار التي ستواجهنا في المستقبل فنستعدّ لمواجهتها قبل حدوثها. وأسلوب الاستقراء هذا تطوّر كثيراً في العصر الحديث حتى أصبح مجموعة متكاملة من الآليات والمعارف المستخدمة في الشركات والدوائر الحكومية ومختلف المؤسسّات التجارية والصناعية.

عماد الثورة

الكاتب لا يكتفي بعرض الوقائع والحوادث، بل يغوص بحثاً عن الاسباب واستخلاص النتائج والعبر معتمداً على مختلف العلوم الإنسانية: التاريخ والانتربولوجيا والاقتصاد والاجتماع والبيولوجيا... كما يكثر من الاستشهادات بالحوادث السياسية وآراء المفكرين من مختلف العصور. في بحثه عن «التحول العظيم» يميّز ثلاث ثورات تكنولوجية كبرى: الزراعية، الصناعية السبرانية Cybernétique (الكمبيوتر ووسائل الاتصال). فالمحرك البخاريّ كان عماد الثورة الصناعية، والكمبيوتر هو عماد الثورة السبرانية. ويتوسع المؤلف في إظهار أهمية الكمبيوتر في مختلف المجالات ويتتبع تطوره منذ أول كمبيوتر تمّ بناؤه في مختبر جامعة كيمبردج في ولاية ماستشوستس وقد وضع في الخدمة سنة 1944 وكان يتألف من حوالى 750.000 قطعة وكان يملأ غرفة كاملة... حتى المايكروكمبيوتر وشبكات الاتصال وربط الهاتف المحمول بالانترنت... والذي يتوقعه كنتيجة طبيعية للتطور في هذا المجال، وفي مستقبل غير بعيد، زرْع وصلات الانترنت في أجسام البشر وبروز كائن من نوع مختلف: جزء من جسمه من البروتد بلاسما وجزء آخر الكتروني أو فوتوني والجزء الأخير من الفضاء السبراني.

الهندسة الوراثية

بعد الثورات الثلاث الكبرى يتوقع المؤلف ثورة تكنولوجية رابعة هي البيوتكنولوجيا التي تبشّر بتغييرات مذهلة، وقد بدات تباشيرها في الهندسة الوراثية لتفعيل إنتاج النبات والحيوان. ولكن يبدو أن أهم التطبيقات تكمن في احتمالات قدرة البيوتكنولوجيا على تعزيز طاقات البشر المادية والعقلية والعاطفية والقضاء على الأمراض وأعراض الشيخوخة وإطالة عمر الإنسان حتى يبلغ عدة قرون!

وفي محاولة تطبيقية يتصور المؤلف سيناريو التقدم في المستقبل غير البعيد (سنة 2040) مفترضاً عدم حدوث مفاجآت: حروب شاملة، كوارث كونية. فهو يتوقع مضاعفة المعرفة التي كانت عام 2000 وتطورات مثيرة في تكنولوجيا النانو (النانو يعني الجزء من مليار، وتكنولوجيا النانو تعني التعامل مع أشياء بأبعاد تقلّ عن واحد من مليار من المتر)، كما يتوقع زوال خوف الجمهور من علم الوراثة، واستثمار المحيطات وتحويل الصحاري الى أراضٍ زراعية، وترابط أمم الأرض ببعضها... إنه سيناريو من سيناريوات عدة محتملة، وهو كما يبدو ليس تنبؤاً بقدر ما هو امتداد النظر الى المستقبل غير البعيد انطلاقاً من معطيات الحاضر.

إلى جانب هذه الايجابيات المتوقعة لا يهمل المؤلف المشكلات الناتجة عن التقدم وأهمها استنزاف للبيئة الطبيعية وأعباء تعلّم مهن وأعمال جديدة باستمرار وحالة الضياع النفسي بسبب التغيّر المستمر وضعف العلاقات الإنسانية وفقدان الثقافات المحلية وتناقص عدد اللغات القومية، فهي كانت تقدّر بنحو 6000 لغة وقد تلاشى الكثير منها حتى قارب العدد 3000 لغة. وفقدان لغة ما يحمل معه فقدان تراث إنساني وهي خسارة لا تعوَّض.

ولكن ممّا يضعف إمكانات استشراف المستقبل كون العالم محكوماً بمنظومات هائلة لا يمكن للعقل البشري استيعابها بالإضافة الى عاملين أساسيين هما: الصدفة والفوضى. ولكن رغم ذلك يبقى على الإنسان واجب السعي ليساهم، على قدر إمكاناته، في صناعة مستقبله. فالمستقبل ليس موجوداً بمعزل عن الإنسان؛ فهو من بعض الوجوه من صنع الإنسان. فإذا كانت، بحسب القول المشهور، خفقة جناح فراشة في مكان ما قد تتسبّب بعاصفة في مكان آخر، أليس هذا حافزاً كافياً للإنسان أن تكون تصرفاته، مهما بدت بسيطة أو تافهة، إيجابية، رشيدة، هادفة للخير لأن تاثيراتها قد تكون هائلة ونحن لا ندري؟ فكما يقول أحد المفكرين: إن حياة الأفراد خيوط يُنسَج منها المستقبل. فمسؤولية الإنسان المعاصر كبيرة تجاه الأجيال القادمة.

هذه هي الخطوط الرئيسية لكتاب «الاستشراف». إنه كتاب جليل الفائدة، معاصر، حديث، يلبي حاجات ملحّة. غنيّ بالمعلومات والتوجيهات التي لا غنى عنها ليكون الإنسان منتمياً فعلاً الى هذا العصر، مدركاً مشكلاته ومساهماً على قدر إمكاناته في حلها. الاطلاع على هذا العلم الناشئ حديثاً غذاء للعقل وغنىً للمخيّلة والشعور وتوجيه للسلوك الإنساني.

تذوّق

ومع كل المتغيرات العديدة التي لم تكن متوقعة في القرن العشرين، يرى البعض ان افضل طريقة للاستشراف بعيد المدى في المستقبل هي الخيال العلمي. والواقع ان كتّاب الخيال العلمي قد وصفوا بالفعل أعمالاً فذّة، مثل السفر في الفضاء، منذ فترة طويلة قبل برنامج أبولو، فقد وصف جول فرن، مثلاً، صاروخاً فضائياً في روايته لعام 1865 من الارض الى القمر From the earth to the moon. لكن الخيال العلمي، رغم انه يستلهم العلم، فهو يأتي من الخيال الواسع الذي لا يدّعي أبداً انه استشراف. وحيث ان كتّاب الخيال العلمي ينتجون أعداداً لا تحصى من قصص الخيال الجامح، فمن الممكن ان نجد بعض هذه التخيلات تتوازى مع تطورات تكنولوجية او أحداث اخرى في العالم الحقيقي. لكن الخيال ليس استشرافاً: فالاستشراف يجب ان يقدم على انه شيء سيحصل فعلاً في المستقبل. بالاضافة الى ذلك، إن نفاذ البصيرة الى المستقبل لكتّاب الخيال العلمي كان موضوع شك حتى لدى كتّاب الخيال العلمي أنفسهم.

وتبعاً لـ إسحاق عظيموف: «إن العلم يشكّل مهمازاً روتينياً للخيال العلمي»، وهو الذي كتب في نفس الوقت في الخيال العلمي وفي الحقيقة العلمية. «يكفي ان يقرأ المرء الخيال العلمي الذي كُتب في اواخر سنوات الـ 1930 ليرى كم كان هذا الخيال أعمى حتى الهاوية تجاه ما كان يحدث بالفعل، فقد كُتبت الرواية تلو الاخرى على ان الراديوم هو المعدن العجائبي للطاقة الذرية، ولم يكن هنالك أي حديث عن اليورانيوم. ورواية بعد الاخرى كانت تتحدث عن الروبوت، لكن أية واحدة لم تتحدث عن الحاسوب. وقد يحدث احياناً ان يكون الخيال العلمي نافذ البصيرة، لكن في معظم الحالات يكون مجرد تابع متواضع للعلم».

وقام عظيموف نفسه بتقديم عدد لا بأس به من الاستقراءات المستقبلية في حياته (1920-1992)، وهو لم يكن أشهر من تكهّن بعصر الروبوت فقط، لكنه أظهر مهاراته في عدد من التكهنّات الاكثر تواضعاً. ففي عام 1964 توقع بشكل صحيح ان السلطات الطبية ستكتشف في النهاية ان دخان السجائر يساهم في الإصابة بالسرطان لدى غير المدخنين، وبالفعل، أكدّ الباحثون بعد ذلك التأثير السيئ «للتدخين الكامن»، وأصبح هذا الموضوع في غاية الاهمية في سنوات الـ 1980. ولكن عندما تسلّم عظيموف جائزة جمعية المستقبل العالمية عام 1986، لم يتباهَ بنجاحاته في الاستقراء، وإنما تذكر خطأ جسيماً وقع فيه: بعد ان تكهّن بنجاح بحاسب الجيب- كيف يمكن ان يكون شكله، وماذا ستكون وظائفه- نسي عظيموف تماماً هذا التكهّن وكتب كتاباً كاملاً في استخدام المسطرة المزلاجة (المنزلقة). وقد صدر كتاب المسطرة المزلاجة في نفس اليوم الذي وصل فيه حاسب الجيب الى السوق ما جعل المسطرة المزلاجة بالية بلا قيمة.