تدحرجت كرة الثلج وزاد حجمها مع زيادة التصريحات النيابية بعد جولات أعضاء المجلس البلدي ثم العدد غير المحدود من «شيوخ» الدين صغيرهم وكبيرهم حول البهرة وحقهم في بناء مسجد يؤدون فيه شعائرهم الدينية كغيرهم من المتدينين.

البداية كانت مع طلب وزارة الأوقاف، عبر مجلس الوزراء، من المجلس البلدي تخصيص أرض لبناء مسجد لهذه الطائفة، وبدلاً من مناقشة الطلب في «البلدي» في إطار اختصاص وصلاحيات المجلس «أفتى» بعض الأعضاء بعدم جواز التخصيص، مسبباً ذلك بموقفه من أسلوب ممارسة هذه الطائفة لدينها. كما «اجتهد» بعضهم وكفرها، وهكذا تجاوز أعضاء المجلس البلدي دورهم المنصوص عليه في القوانين المنظمة لعمل المجلس الى أدوار سياسية ودينية وطائفية واجتماعية، عدا الدور الفني الذي يمكن اختصاره بالإجابة على طلب وزارة الأوقاف بالموافقة أو عدم الموافقة (لأسباب فنية تعود الى أن الأرض المطلوبة لا يجوز تخصيصها لبناء مسجد بحسب المخطط الهيكلي أو أي مبرر فني آخر). كما كان بإمكان المجلس البلدي رفض الطلب وتخصيص قطعة أرض أخرى تسمح اللوائح باستخدامها لبناء مسجد. أما ما يتعلق بحق هذه الطائفة أو غيرها ببناء مسجد لتأدية شعائرها الدينية فلا علاقة للمجلس البلدي فيه من قريب أو بعيد طالما تقدمت وزارة الأوقاف بذلك الطلب.

Ad

ما رأي الدستور الكويتي؟

ينص الدستور الكويتي في المادة (29) على أن «الناس سواسية في الكرامة الإنسانية، وهم متساوون لدى القانون في الحقوق والواجبات العامة، لا تمييز بينهم في ذلك بسبب الجنس أو الأصل أو اللغة أو الدين».

وهذه مادة دستورية حاسمة يتحدث فيها المشرع عن «الناس» ولم يقل «المواطنون» مبينا المساواة أمام القانون في الحقوق والواجبات العامة، وحدد بعد ذلك «عدم جواز» التمييز بينهم على أساس الدين من بين الأمور الأخرى، أي أن الدستور الكويتي لم يترك هذا الأمر لمشرعي القوانين في مجلس الأمة بل قرره بشكل واضح ومطلق لا يحتمل الاختلاف في التفسير أو الاجتهاد فيه.

كما تنص المادة 35 على أن «حرية الاعتقاد مطلقة، وتحمي الدولة حرية القيام بشعائر الأديان طبقاً للعادات المرعية، على ألا يخل ذلك بالنظام العام أو ينافي الآداب».

ويتضح من هذه المادة أن الدستور الكويتي لم يتحدث عن «جواز» حرية الاعتقاد بل نص بشكل قاطع بأنها «مطلقة» ولم يكتف الآباء المؤسسون للدستور بإطلاق تلك الحرية بل ألزموا الدولة بدور خطير ومهم «تحمي الدولة حرية القيام بشعائر الأديان...»، ولم يترك المشرع الأمر من دون تحديد دقيق الى الاسثناءات التي اشار إليها بـ«العادات المرعية» واشترط أن «لا يخل ذلك بالنظام العام أو ينافي الآداب» وهي شروط وضعت لتحمي المجتمع من الشذوذ في تلك الممارسة لا أكثر.

أما المذكرة التفسيرية فتنص على: «هذه المادة تقرر «حرية الاعتقاد» مطلقة، لأنها مادامت في نطاق «الاعتقاد» أي «السرائر» فأمرها الى الله، ولو كان الشخص لا يعتقد في دين ما، فإن جاوز الأمر نطاق السرائر وظهر في صورة «شعائر» وجب أن تكون هذه الشعائر طبقاً للعادات المرعية وبشرط أن «لا تخل بالنظام العام أو تنافي الآداب».

تهديد الوزير

ومن هنا يتبين أن الموقف الحاسم في الموافقة على بناء المسجد من عدمه لا يفترض أن تعود الى أعضاء المجلس البلدي، بل على الحكومة (الجهاز التنفيذي) «حماية» حق هذه الطائفة وغيرها بالقيام بشعائرها. ويأتي دور مجلس الأمة الرقابي في حال أخلت الحكومة بتكليف الدستور لها في توفير تلك الحماية. أي أن على أعضاء مجلس الأمة الانتصار للدستور ومحاسبة الحكومة إن هي أخلت في تطبيقه وليس كما يفعل بعض النواب هذه الأيام عندما يهدد بعضهم بمحاسبة وزير الأوقاف إن وافق على إنشاء المسجد!

النواب في هذه الحالة ينتصرون لمواقفهم الخاصة ولفهمهم الديني ولا يكترثون بالدستور، بل يظن بعضهم، وربما يعمل على هذا الأساس، أنه إن تمكن من الحصول على الأغلبية النيابية فإن بإمكانه تشريع قوانين تخالف الدستور أو التدخل في شأن السلطة التنفيذية بما يخل بتطبيق الدستور، مستخدمين بذلك أساليب الترهيب السياسي ساعين الى تحريك مشاعر مؤيديهم لحصد الأصوات في أول انتخابات تجرى على نظام الدوائر الخمس (حيث لا تكفي العلاقات المباشرة بين المرشح والناخب ويحتاج الساعون الى النجاح الى أصوات من يؤيدهم «لأفكارهم» من دون أن يعرفهم بشكل شخصي).

أين تقف موجة التكفير؟

من جانب آخر، تناول الموضوع كالعادة عدد مهول من «شيوخ» الدين وبخاصة الصغار منهم وأعطى كل منهم الحق لنفسه في الفتوى حول تكفير هذه الطائفة أو تلك أو إخراجها من الملة، وغابت كما العادة المؤسسات الرسمية المكلفة بالإفتاء، أما مسلسل التكفير على أيدي «الشيوخ» المنتمين الى تيارات الإسلام السياسي فلم يبدأ مع إثارة أمر مسجد البهرة فحسب، بل طال سابقا كثيرا من الطوائف والملل. ولن يقف المسلسل عند من يتفق «الشيوخ» على تكفيرهم. فلو بحثنا في تراثهم لوجدنا كل فئة منهم ترى في نفسها الفئة الناجية من النار والبقية فئات ضالة. بل علينا أن نتذكر أن من هؤلاء من اعتبر «الملا عمر» أميراً للمؤمنين ومنهم من لايزال يرى في اسامة بن لادن «شيخاً» من شيوخ الإسلام وربما أكثر لدرجة تقديم النصيحة له في رسالة نشرت على شكل مقالة، وبينهم من يدعم إرهابيي العراق ويسميهم «مجاهدين» ومنهم من يذهب الى تشجيع الشباب على الانخراط في جموع «الانتحاريين» ومنهم من رأى في صدام «أميرا» للمسلمين وتحاور معه على آلية لإخراج «الكفار» من الكويت والجزيرة العربية على أن تحل محلها «جيوش إسلامية».

هل الكويت دولة مدنية؟

الجماعات الدينية أو أغلبها على الأقل تسعى الى تحويل الكويت الى دولة دينية وهي تعلن ذلك من دون مواربة، فقد سعت - ولاتزال - الى تغيير المادة الثانية من الدستور كي تكون الشريعة الإسلامية هي المصدر الوحيد للتشريع وليست مصدراً اساسياً كما هي الآن، كما عبر كثير من المنتمين الى بعض هذه الجماعات عن عدم اقتناعهم بالديموقراطية كنظام حكم، وانخرط بعضهم في الممارسة الديموقراطية ليس قناعة بها بل «تقية» أو ربما وسيلة للوصول من خلالها الى الدولة الدينية.

وكي نفرق بين الدولة الدينية والمدنية، فالأولى تحكم بناء على تفسير الجماعة الدينية المهيمنة ولا قيمة للتفسيرات الدينية للجماعات الأخرى ولنا في التجربة الإيرانية بعيد الثورة على نظام الشاه، حيث تقلصت الجماعات التي تحالفت في اسقاط الشاه الى جماعة واحدة فقط. وبالتالي فإنه في الدولة الدينية لا تكتفي الجماعة المهيمنة فيها بإقصاء الجماعات الدينية الأخرى فحسب، فمن باب أولى تقصي جميع القوى والأحزاب السياسية المدنية الأخرى، أما في الدولة المدنية (كما ينص عليها دستور 1962) فالحرية حق والناس سواسية ولا تمييز بينهم على اساس الدين أو الطائفة أو العرق أو الجنس، هم متساوون أمام القانون في الحقوق والواجبات ولهم جميعاً أن يمارسوا حريتهم في إطار القانون ولا مجال لجماعة بعينها أن تلغي وجود الآخرين أو تقصيهم.

من هنا نقول للمختلفين حول حق طائفة البهرة في بناء مسجد لممارسة شعائرهم الدينية من دون أي مساس بالآداب العامة، لقد عالج دستورنا هذا الأمر ولا حاجة لاجتهاداتكم الدينية أو السياسية، كما حصلت الطائفة طيلة وجودها في الكويت على دعم القيادة السياسية لها وتشرفت قياداتها الدينية بلقاءات كثيرة مع صاحب السمو أمير البلاد والمغفور له الأمير الراحل الشيخ جابر الأحمد ومع سمو الأمير الوالد وسمو رئيس مجلس الوزراء والنائب الأول. أما إن رضخت الدولة بمؤسساتها لصراخ البعض وترهيبه ورفضت الانتصار للحق الدستوري، فهذا لعمري مسمار آخر في نعش الدولة المدنية الدستورية.