Ad

مازال الفكر العربي الإسلامي المعاصر يصارع من أجل إبراز حقوق الإنسان، ليس فقط عن طريق القراءات الإسلامية المتعددة لمواثيق حقوق الإنسان الدولية، ولكن أيضا عن طريق تأصيل حقوق الإنسان في التراث القديم الذي مازال يؤكد على حقوق الله وواجبات الإنسان.

أحد أشكال اليسار الإسلامي، هو الإسلام «الإنساني»، أي الإسلام الذي يجعل الإنسان محوره وهدفه، وليس الإسلام السلطاني أو الفقهي أو العقائدي أو الشعائري. فقد خاطب الله الإنسان بالوحي، وجعله خليفته في الأرض، والأمين على الرسالة التي اختارها بحرية (إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها، وحملها الإنسان). فالإنسان هو كليم الله وليس فقط موسى، وخليل الله وليس فقط إبراهيم، وروح الله وكلمة منه وليس فقط عيسى، والمبلغ لرسالات الله وليس فقط الرسول. لأجله خلقت السماوات والأرض والشمس والقمر، والجبال والبحار، والطير والزرع، والماء والهواء.

ومع ذلك اتــُّهم الإسلام بأنه ضد حقوق الإنسان لأنه يعطي الأولوية للحاكم على المحكوم، وللسلطان على الناس، ولتطبيق الشريعة على جسد الإنسان ببتر الأعضاء، وهي جزء من حقوق الإنسان. وأشد ملف قسوة من ملفات حقوق الإنسان هو الملف العربي الإسلامي طبقا للتقارير السنوية لمنظمة العفو الدولية. المعتقلون بعشرات الآلاف تحت التعذيب طبقا لقانون الطوارئ أو صيغته الجديدة باسم مكافحة الإرهاب أو قانون حماية الوحدة الوطنية أو قانون العيب إلى آخر هذه التسميات الفضفاضة التي تعني شيئاً واحداً هو خرق حقوق الإنسان الطبيعية والمدنية. بل إن معتقلي «غوانتانامو» يُرسلون إلى الأقطار العربية ليعذبوا في بلادهم بدلا من تعذيبهم في أميركا مما يضع الإدارة الأميركية تحت المساءلة.

كما ادعى الغرب أنه وحده هو الذي أصدر الإعلان العالمي لحقوق الإنسان مرتين، الأولى أثناء الثورة الفرنسية، والثانية بعد الحرب العالمية الثانية. في حين أن الحضارات الأخرى لم تعرف إلا حقوق الله وحقوق السلطان. في الغرب وحده قامت النزعة الإنسانية منذ القرن السادس عشر. وعليها قامت النهضة الغربية الحديثة. ويضرب المثل بالعقائد. في المسيحية يموت الله من أجل الإنسان. وفي الإسلام يموت الإنسان من أجل الله.

والإنسان مذكور في القرآن الكريم خمساً وستين مرة، عن أصله وسماته الهشة وأعدائه. ومذكور أيضا حريته ومسؤوليته (وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه)، وبره بالوالدين، وعظمته بما يتمنى (أم للإنسان ما تمنى)، ويسعى (وأن ليس للإنسان إلا ما سعى)، وعلمه (خلق الإنسان علمه البيان)، (علم الإنسان ما لم يعلم). وهو في أحسن تقويم (لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم). والإنسان اشتقاقا من الأنس والألفة والمحبة. والإنس وهم البشر في مقابل الجن والملائكة، وليس من النسيان كما قال أحد الشعراء.

وقد ظهر الإنسان في العلوم الإسلامية العقلية النقلية القديمة. ظهر في علم أصول الدين وعلوم التصوف في صورة «الإنسان الكامل». فقد خلق الله الإنسان على صورته ومثاله. والصفات، العلم والقدرة والحياة والسمع والبصر والكلام والإرادة، مشتركة بين الإنسان والله، في الإنسان على نحو نسبي، وفي الله على نحو مطلق. في الإنسان على الحقيقة وفي الله على المجاز، قياساً للغائب على الشاهد، أو في الله حقيقة وفي الإنسان تواضعاً من الإنسان أن يؤثر الله بالحقيقة ويكتفي هو بالمجاز. والأسماء الإلهية التسعة وتسعون مجموعة من القيم والفضائل الإنسانية يتحلى بها كي يصبح إنساناً كاملاً. و«الإنسان الكامل» عند الجيلي هو الإنسان الذي تشبه بصفات الله وأسمائه.

وإذا كان الإنسان من حيث هو إنسان قد غاب في علوم الحكمة إلا أنه كان حاضرا كنفس أو عقل خاصة عند إخوان الصفا الذين جعلوا الحكمة ليست فقط ثلاثية: منطق، وطبيعيات، وإلهيات، بل رباعية بإضافة العلوم النفسانية والناموسية أي علمي النفس من ناحية، والاجتماع والسياسة والقانون من ناحية أخرى.

كما حضرت حقوق الإنسان بوضوح في مقاصد الشريعة في علم أصول الفقه، في الضروريات الخمس: الدفاع عن النفس أي الحياة ضد الجوع والفقر والمرض والحروب، والدفاع عن العقل ضد الجهل والغباء والسفه والخبل، فالحياة هي الحياة العاقلة، والدفاع عن الدين أي القيمة التي يشارك فيها الجميع، المعيار الخلقي الشامل ضد النسبية والمعيار المزدوج والأنانية وتغليب المصلحة الخاصة على المصلحة العامة، والدفاع عن العرض أي الكرامة الفردية والجماعية ضد جميع انتهاكات حقوق الإنسان، وأخيراً الدفاع عن المال أي الثروة الوطنية ضد التبذير والسفه والاستغلال والاحتكار وسوء توزيع الثروة.

ومازال الفكر العربي الإسلامي المعاصر يصارع من أجل إبراز حقوق الإنسان، ليس فقط عن طريق القراءات الإسلامية المتعددة لمواثيق حقوق الإنسان الدولية، ولكن أيضا عن طريق تأصيل حقوق الإنسان في التراث القديم الذي مازال يؤكد على حقوق الله وواجبات الإنسان، كما هي الحال عند محمد بن عبد الوهاب في «كتاب التوحيد الذي هو حق الله على العبيد». في حين أن المعتزلة القدماء تكلموا عن الواجبات العقلية مثل الخلق والتكليف وشكر المنعم. التوازن بين الحقوق والواجبات ضروري. لا حقوق بلا واجبات، ولا واجبات بلا حقوق. في الحضارة الغربية في العلاقات الدولية حقوق بلا واجبات، وفي الحضارة الإسلامية في العلاقات السياسية واجبات دون حقوق.

الإسلام الإنساني إذن يجعل الإنسان هو الهدف الرئيسي من الرسالة، دفاعاً عن حقوقه، وتأكيداً لسلطانه وحريته. بدنه جزء من الحقوق، يداه ورجلاه ورقبته وحريته في القول والتعبير جزء من الحقوق ضد حرية الرأي وتكميم الأفواه وتقييد الحركة في السجون والمعتقلات. الإسلام الإنساني ضد الإسلام السلطاني الذى يضحي بالإنسان فى سبيل السلطان وضد الإسلام الردعي اعتمادا على درء الحدود بالشبهات.

حينئذٍ يستطيع الإسلام أن يدفع عن نفسه الشبهات ويدافع عن إنسانيته في مواجهة تحديات العصر.

كاتب ومفكّر مصري