محنة الرئيس الذي يجول في، المنطقة ربما كشفت للمراقبين عما هو معلن، مع تلك الابتسامات البرتوكولية للصحافة والإعلام، غير أن ما هو غير معلن، تكتمه الأدراج المغلقة، لاسيما أن أسرار احتمالات الحرب وقرارها تبقى معلقة بين السيف وحبل المشنقة. شكلت زيارة بوش الابن للكويتيين حلماً مستعاداً، وكأنما الأمس القريب يفتح ذاكرتهم على الألم، وتستعيد زيارة وجولة الرئيس بوش الابن التاريخية للمنطقة إلى ذاكرة الخليج والخليجيين والعالم أجمع، ذلك الكابوس الذي حل في الأول من أغسطس عام 1990، عندما غزا صدام الكويت، متناسياً كل القيم والإخاء العربي والمواثيق، فقادته نزعته التسلطية والتوسعية إلى اقتحام جارته المسالمة، التي وقفت معه طوال فترة الحرب وبعده، لكي يرى الناس والعالم بأم أعينهم دباباته وزبانيته كيف يعيثون في الأرض والناس فساداً. تستعيد ذاكرة الكويتيين الأمس القريب وكأن بوش الأب حاضر في الكويت المحررة، وبين مسافة العراق المهزوم في بداية التسعينيات وصدام المشنوق في الألفية الجديدة، كشفت الملفات الغامضة عن أسرار الحروب وملفاتها المعقدة، وعن المعلن وغير المعلن في حينه، إذ لاتزال بعض خيوط اللعبة المنسوجة في الظلام في كمونها، بالرغم مما دفعه الشعب الكويتي وحكومته من ثمن باهظ، ودفعته المنطقة من ارتباكات في التنمية والبيئة.في الأمس احتفظت ذاكرة الأب بوش بالحرب والتحرير، واليوم تستعيد ذاكرة الابن بوش ملامح حرب ممكنة ومحتملة وخياراً قائماً في البيت الأبيض، إذا ما واصلت إيران تعنتها حول الملف النووي، مع أن شعوب المنطقة وحكامها يميلون إلى معالجة هذا الملف بحكمة وخيارات أخرى إلا خيار الحرب، لان الحرب طامة كبرى وكارثة لا يمكن أن تفيد أي طرف، فالجميع سيكون خاسراً بدرجات مختلفة، وذاكرة العرب تحتفظ بمعلقة عظيمة تركها لنا زهير ابن أبي سلمى عندما حذرنا بقوله: وما الحرب إلا ما علمتم وذقتم ... وما هو عنها بالحديث المرجمفكان على الابن بوش أن يعود إلى واشنطن، حاملا معه ترجمة للمعلقة مكتوبة بحروف من ذهب، فقد طحنت الحروب العرب وجيرانهم، ولن تكون مدخلاً حقيقياً للمعالجة المعقدة بين طهران وواشنطن. جاءنا بوش الأب ضاحكاً، كما والده جاء فرحاً بعد تحرير الكويت، فإذا كان من حق الأب أن يكون فخوراً بالدور الأميركي في التحرير، فإن على الابن أن يتجنب الحرب لأنها ورطة سياسية، يموت على مذبحها الساسة إذا استمروا مدة أطول، فورطة إسرائيل في الأراضي المحتلة لم تحل العقدة التاريخية من الصراع للسبب نفسه، مثلما لم تنجح الولايات المتحدة بتفكيك الألغام العراقية المتفجرة في العراق لما بعد مرحلة صدام، فكانت النتائج مختلفة ما بين مرحلتي التحرير من الاستبداد وإسقاط الطاغية، ومرحلتي تفكيك النظام واستتباب الأمن الداخلي بالسهولة المتوقعة، فهناك قوة إقليمية يحاول الرئيس بوش حسب قوله، «من الضروري احتواؤها» فقد بات لها نفوذ قوي في الدول المجاورة، مشيراً بلغة مباشرة أو غير مباشرة، إلى الدور الإيراني المتزايد وأنيابها النووية، والذي يشكل عنصر قلق لدول المنطقة وشعوبها. تأتي زيارة الرئيس بوش في ظروف حرجة، ففي الوقت الذي يتظاهر العالم احتجاجاً على معسكر غوانتانامو، كانت الحملات الانتخابية في الولايات الأميركية بدأت تسخن، حيث الآفاق هذه المرة لا تبشر بنجاح المحافظين، وإن كان الرئيس بوش لا يهمه ذلك كثيراً على المستوى الشخصي، بعد دورتين من الرئاسة، فالدستور الأميركي لا يسمح له بإعادة ترشيح نفسه للمرة الثالثة، تاركاً خلفه للمرشح القادم من حزبه ركاماً من الملفات المعقدة داخلياً وخارجيا، وبسببها انكمش الناخبون عن تأييد الحزب بالصورة التي بدأها قبل ثمانية أعوام، فالأكفان القادمة من أفغانستان والعراق لا تسر العائلات، ولن تقنعها بحقيقة أن الأبناء في الخارج يدافعون عن الحرية وتكريس قيم الديموقراطية في العالم، إلى جانب دفاعهم عن المصالح الاستراتيجية والأمنية للولايات المتحدة الأميركية. محنة الرئيس الذي يجول في، المنطقة ربما كشفت للمراقبين عما هو معلن، مع تلك الابتسامات البرتوكولية للصحافة والإعلام، غير أن ما هو غير معلن، تكتمه الأدراج المغلقة، لاسيما أن أسرار احتمالات الحرب وقرارها تبقى معلقة بين السيف وحبل المشنقة. جولات الرئيس، قال البعض عنها دبلوماسية وبرتوكولية تحمل في طياتها خطباً تطمينية للحلفاء والأصدقاء، ومن جهة أخرى رسالة تحذير للطرف الخصم بأن منطقة الخليج وأنظمتها خط أحمر بالنسبة للولايات المتحدة، البعض قال إن الرئيس جولته وداعية، إذ بعد شهور سيكون خارج البيت الأبيض، وعليه أن يوزع قبلات الوداع والمعانقة، غير أن العالمين بالتنجيم السياسي فسّروا أن الزيارة تحريك للمسألة النووية وملفها وتداعيات الملف المحتملة، التي إما أن تقود إلى الحرب أو تقود إلى السلام، فهل كانت الولايات المتحدة وإيران بحاجة إلى الحرب الإعلامية كحكاية اعتراض الزوارق الإيرانية السفينة الأميركية؟! أم أن طهران وواشنطن صارتا مولعتين «بالاحتكاك» الإعلامي قبل الاحتكاك الكلامي، فالتحرش السياسي قد يقود إلى كارثة لا تحمد عقباها. سيعود الرئيس إلى معركته الانتخابية وإلى ملفاته المغلقة بعد أن استمع إلى مفردات التطمين، بأن حلفاء الأمس ثابتون في مواقفهم مع حليفهم التاريخي، الذي برهن لهم في تجربة الكويت، أنه لن يسمح بالتلاعب مع أنظمة تلك المنطقة، عندما يجتاز الآخرون حدودهم المتاحة.* كاتب بحريني
مقالات
بوش المعلن وغير المعلن
17-01-2008