لماذا لا يملك اللبناني رأياً في ما يجري في البحرين؟ ولماذا لا يوالي فئة من المرشحين الكويتيين في مواجهة فئة أخرى؟ والأرجح أن بعض العرب يجيب عن مثل هذا السؤال بالقول: اللبنانيون ممتلئون بأنفسهم ويظنون أن العالم لا يهتم لأي شأن كاهتمامه بشؤونهم، وهذا ما يمكن ملاحظته بوضوح في السلوك السياسي اللبناني عموماً.

Ad

لطالما ردد الرئيس الأميركي جورج دبليو بوش أنه يريد حماية ديموقراطية لبنان الناشئة، ولا أحد يعلم لماذا لم يصحح له أحد مساعديه هذا الخطأ التاريخي. ديموقراطية لبنان ليست ناشئة، ويصح أن يقال فيها ديموقراطية شائخة، لقد رافقت هذه الديموقراطية لبنان منذ نشوئه، وأثبتت بما لا يقبل الشك عجزها عن درء النزاعات المسلحة والعنيفة طوال هذا التاريخ. الديموقراطية بالنسبة للبنانيين، هي بالضبط ما يجدر بهم أن يمارسوه في أوقات الفراغ الأزماتي. أما في خضم الأزمات فلا مندوحة من استعادة العمل بقاعدة السياسة الذهبية: الحرب.

كان كلاوسفيتز يقول إن الحرب هي السياسة بوسائل أخرى، وهو في تقديمه السياسة على الحرب افترض أن الحرب استثناء والسياسة قاعدة، وأن الاستثناء يصح فقط في حال تعذر اتباع الوسائل العادية والمتبعة، لكن الفيلسوف الفرنسي ميشال فوكو نقض عبارة كلاوسفيتز هذه معتبراً أن السياسة هي الحرب بوسائل أخرى، أي أن النشاط السياسي يقع في الفاصل الزمني بين حربين. وما دامت الحرب هي القاعدة فربما يجدر بالمؤرخين تفسير وتحليل الأسباب التي تجعل أحوال السلم تدوم وتزدهر في بلد ما. ليس لبنان قطعاً.

الحرب اللبنانية، أطول عمراً من أبطالها، ليس لأن أبطالها هم الشهداء، بل لأنها مديدة وطويلة إلى الحد الذي ينوف على أعمار بكاملها، لكنها على ما يظهر حرب مفصلية، أي أن قواها المتنازعة تخوض فيها لأن كل واحدة منها تفترض أنها قادرة على حسم الأمور في ميدان المعركة، ذلك أن هذه الحرب لا تقتصر مواردها على البشر والحجر واللبنانيين، بل لطالما تغذت على المتطوعين من كل الجوار. هكذا يندر أن يجد المرء شخصاً بالغاً في أي بلد من بلاد العالم العربي لا يملك رأياً في ما يخص لبنان، وكثيراً ما يكون الرأي منحازاً إلى فئة من الفئات المتصارعة فيه. ثمة من يرى رأي «حزب الله» وما يمثله، وثمة من يرى رأي تيار المستقبل الذي يتزعمه النائب سعد الدين الحريري وما يمثله، وثمة كثيرون يرون لبنان قاصراً ويحتاج من يأخذ بيده حتى لا يدمر اللبنانيون وطنهم، وهذا عين ما يعنيه أمين عام جامعة الدول العربية السيد عمرو موسى ويكرره على مسامع اللبنانيين والعرب كل يوم. لكن السؤال الذي لاأحد يفكر في استحضاره هو التالي: لماذا لا يملك اللبناني رأياً في ما يجري في البحرين؟ ولماذا لا يوالي فئة من المرشحين الكويتيين في مواجهة فئة أخرى؟ والأرجح أن بعض العرب يجيب عن مثل هذا السؤال بالقول: اللبنانيون ممتلئون بأنفسهم ويظنون أن العالم لا يهتم لأي شأن كاهتمامه بشؤونهم. وهذا مما يمكن ملاحظته بوضوح في السلوك السياسي اللبناني عموماً، لكن ما لا يجد له المرء تفسيراً مقنعاً يتصل بالسؤال التالي: إذا كان لبنان صغيراً وهامشياً إلى هذا الحد، فلماذا يبدي رئيس الولايات المتحدة الأميركية اهتمامه المفرط بشؤونه؟ ولماذا هو عزيز على قلب فرنسا إلى هذا الحد؟ كانت التفسيرات السابقة تفيد بأن فرنسا، ممثلة للعالم الغربي، تبدي هذا القدر من الاهتمام بلبنان بسبب وجود الطوائف المسيحية فيه. لكننا اليوم نعرف أن مسيحيي لبنان، زعماءهم على وجه التحديد، لا يحسنون إقامة علاقات مع أي خارج، بل إن أحد أهم زعمائهم دُعي دعوة رسمية إلى زيارة سورية، مع ما تعنيه هذه الدعوة من رقة حاشية العلاقات المسيحية اللبنانية المعقودة مع الخارج، حين تكون سورية هي المنفذ الوحيد خارجياً لأحد أكثر زعماء الموارنة اللبنانيين شعبية. والحال، فإنه رغم الفقر المدقع في العلاقات الخارجية التي يرعاها مسيحيو لبنان، مازال البلد يلقى اهتماماً مفرطاً من الشرق والغرب، والأرجح أن أسباب هذه الاهتمام تعود في الدرجة الأساس إلى كون البلد يخوض الحروب التي لا يجرؤ على الدخول في غياهبها جيرانه الأقربون والأبعدون، فلبنان يخوض منذ أكثر من خمسة عقود ومن دون توقف حرباً أهلية ساخنة وباردة على شعارين: فصل لبنان عن أزمة الشرق الأوسط، وبالتالي تحييده عما يجري في المنطقة وخروجه عن مصائرها وصراعاتها من جهة أولى، وإلحاقه بهذه الأزمة وشد وثاقه إليها من جهة ثانية. وكلا الشعارين يتوسل العنف العاري وسيلة وحيدة لتحقيقهما، وهذا ما يجعل العالم كله ينظر إليه بوصفه مختبراً صغيراً لما قد ينجح أو يفشل من مشاريع وسيناريوهات.

* كاتب لبناني