رأى دبدوب أن فائض الرساميل الخليجية فاق 700 مليار دولار معظمها في صناديق سيادية.

Ad

أمضيت 45 عاماً في الخليج حيث بدأت مسيرتي المهنية مع بنك الكويت الوطني في عام 1962. ولقد شاهدت طفرات وخيبات وأزمات عديدة. لكن الازدهار الذي نعيشه هو اكبر مما عرفته، وهو يمنح الفرصة لكل العرب لتصحيح مسارنا والتعاطي مع التحديات من موقع قوة وراحة. يجب فعل الكثير لملاقاة طموحات شبابنا، وهناك دور للجميع للتأكد ان كل مراكبنا ستطفو.

لقد أردت أن أتكلم(•) أولاً عن الادارة العربية التقليدية وكم تختلف عن مبادىء الادارة الغربية. وأردت ايضا التكلم عن تجربتي في ادخال التغييرات الى بنك الكويت، وعن الحاجة الى الاستعداد للتحولات الحاصلة في العالم العربي.

ثم استدركت، ان ذلك قد يصيبكم بالملل، اما لأنكم سمعتموه من قبل، او لأنكم تعرفونه كمحترفين في ادارة الاعمال. وحين يكون المرء في عمري، لا يرغب ابدا في اثارة ضجر مستمعيه. ولذا سأكتفي بإخباركم هذه الطرفة.

في السبعينيات، وظّف بنك الكويت مستشاراً لتطوير خطة استراتيجية خمسية للبنك. كان ذلك بعد طفرة النفط الاولى حين بدأنا نشاطاتنا في القطاع المصرفي العالمي. وفي اجتماع مع رئيس مجلس ادارتنا المرحوم، حاولت ان اشرح ما كنا نفعله كتخطيط لمستقبل البنك. نظر إليَّ كأنني ساذج، وقال لي «يا بني لا يعلم الغيب الا الله».

هكذا طوينا فكرة التخطيط الاستراتيجي. لدي ملء الاحترام لثقافتنا، والتخطيط لا يجب ان يتعارض معها. هذه القصة تكشف الكثير عن الادارة العربية، والتخطيط الاستراتيجي او غيابه. هذه القصة تثبت التحديات الثقافية التي تواجه الادارة العربية. وصدقوني هذه العراقيل لا تزال موجودة اليوم. أرجو أن يكون مَنْ يقدّرون اهمية التخطيط الاستراتيجي بينكم مصممين كما كنت مصمما على فعل ما اعتبرته الافضل لبنك الكويت الوطني.

حين كنت أعد لموضوع اليوم عثرت على خطاب القيته في نيويورك عام 1995، وتساءلت كم تغيّرنا منذ ذلك الحين، ففي حينها كنت أفكر لماذا نضيّع فرصة الافادة من الاتجاهات العالمية السائدة. وخلصت إلى ما يلي:

- بينما كنا ننبت الدكتاتوريات ونصرف مواردنا على التسلح ليحارب أحدنا الآخر، كان العالم المتطور يعزز الديموقراطية واحترام حقوق الانسان.

- بينما كنا نعلّم اولادنا الشعارات البالية مثل «بالروح بالدم نفديك يا زعيم» كان العالم يعلّم اطفاله العلوم والتكنولوجيا.

- بينما كنا نضخم القطاع العام، كان العالم يشجّع روح المبادرة الخاصة.

للأسف الأمر لا يختلف كثيراً اليوم.وعلى الرغم من ذلك أرى بارقة أمل وبداية تحول في العالم العربي، مما اقنعني بالتحدث اليكم عن مكاسب النفط في دول الخليج وامتداداتها في المنطقة. بفضل الصين والهند والولايات المتحدة، تمر الدول العربية المصدّرة للنفط (دول مجلس التعاون الخليجي) بطفرة ازدهار اقتصادي ستستمر عشرة او خمسة عشر عاما. ففي عام 2006 جنت هذه الدول، التي تسيطر على أربعين في المئة من مخزون النفط العالمي، عائدات بقيمة 360 مليار دولار ووفرت للعالم رساميل بقيمة 200 مليار دولار، لأن مكاسب النفط كانت اكبر مما نستطيع صرفه. كانت دول مجلس التعاون الخليجي اكبر مصدر للنفط، ونالت 15 في المئة من المردود الصافي للنفط، سابقة الصين واليابان.

فائض الرساميل في دول مجلس التعاون الخليجي في السنوات الخمس الماضية فاق 700 مليار دولار. معظم هذه الاموال ممسوك الآن في صناديق غنى سيادية، او ما يسمونه اليوم سماسرة النفوذ الجدد في العالم، هذه الصناديق تستثمر عموما في اصول اجنبية يُقدر حجمها بملياري دولار.

ما هو لافت في هذه الصناديق المستقلة ليس حجمها بل نموها السريع الذي فاجأ عالم المال، وإذا استمر نمو هذه الصناديق بنسبة 20 في المئة سنويا، فسيتضاعف حجمها بحلول 2012. والواقع ان مؤسسة ماكينسكي العالمية تتوقع ان ترتفع عائدات دول مجلس التعاون الخليجي من النفط الى 6 تريليونات دولار خلال الاربعة عشر عاما المقبلة اذا كان سعر برميل النفط سبعين دولاراً كمعدل وسطي، اما اذا بقي سعر برميل النفط مئة دولار، فتتوقع ماكينسكي ان ترتفع عندها عائدات النفط الى 9 تريليونات.

هذا ليس بالفارق البسيط.

هناك حاليا انتقال للثروة من الولايات المتحدة وأوروبا الى الشرق، ومن ضمنه دول مجلس التعاون الخليجي. انه تغيير جذري، فسماسرة النفوذ الجدد هؤلاء يعيدون صياغة اسواق الرساميل العالمية. هل يمكنكم تصور قوتنا في العقد المقبل اذا عرفنا كيف نستخدمها؟.

هل تتصورون ماذا كان يمكن أن يحدث للأسواق المالية لو لم تقم ابو ظبي والكويت بإنقاذ «سيتيبنك» و«ميريل لينش» وغيرهما لاحقا؟

السؤال الذي يحيّر المحللين عبر العالم هو «ماذا سنفعل بمكاسبنا»؟

هذا السؤال موجّه الى كل الدول العربية. ان عصر النمو الجديد هذا يوفر فرصة فريدة لتعديل مسار وديناميات الاقتصادات العربية. قليلة هي الدول التي تنال هذه الفرصة، ونادرة هي الدول التي تنالها مرتين. لقد وهبنا الله هذه المنحة الطبيعية، وفرصة ثانية لإصلاح الامور. من واجبنا الآن ألا نهدر هذه الفرصة.

لحسن الحظ يبدو ان دول مجلس التعاون الخليجي قد ادركت الامر، اذ كيف نفسّر بغير ذلك، تنامي ثقة المستثمرين وتفاؤلهم، ترون ذلك في المدن المتغيرة من دبي الى الكويت، ترون ذلك في تزايد اعداد الشركات الوطنية البطلة التي تغذت بأسواق الرساميل للتوسع بقوة في المنطقة وخارجها، ترون ذلك في تنامي سوق الاسهم بأكثر من 400 في المئة منذ عام 2000، ترون ذلك في مبادرات العديد من دول مجلس التعاون الخليجي لتحرير اقتصاداتها بأمل اجتذاب مستثمرين اجانب والفوز بقصب السباق، لتصبح مراكز تجارية واقليمية، هذا التحول قد دفع الى الواجهة مسألة الحَوْكمة الشركاتية، وقد تحركت دول خليجية عدة لاعتماد مقاييس دنيا لها، ولن يمر وقت طويل قبل أن يبدأ الجميع بوضع مقاييس للحوكمة.

قد تسألون «كيف يمكن لدول غير منتجة للنفط، مثل لبنان، أن تستفيد من مكاسب النفط؟».

فلنبدأ بفهم وجهة هذه الأرباح. بداية، من الطبيعي أن نتوقع أن تعمد دول مجلس التعاون الخليجي الى استعمال عائدات النفط المتزايدة لتسريع تطورها الاقتصادي عبر زيادة استثماراتها المحلية، فدول عديدة تعمل على بناء مدن صناعية جديدة ومراكز ثقافية وسياحية وصحية ومالية، لكنّ هناك حدوداً لقدرتها على استيعاب هذه الاستثمارات، ومخاطر من ضغوط تضخيمية لن تتمكن من احتوائها، ولذا ستعمد الى تحويل المتبقي من المكاسب الى استثمارات اجنبية، وعلى المدى البعيد سيفوق حجم الاستثمارات الاجنبية حجم الاستثمارات في الدول الخليجية ذاتها.

هذه النزعة إلى تنويع الاستثمارات المالية هي وراء الاتجاهات الجديدة الآخذة في البروز في دول مجلس التعاون الخليجي منذ عام 2002.

في الماضي، كانت اموال دول مجلس التعاون الخليجي تذهب بمعظمها الى الولايات المتحدة وأوروبا، أما اليوم فتشير الدلائل إلى ان ثلث استثمارات دول المجلس تذهب الى آسيا ودول منظومة مينا (الشرق الأوسط وشمالي افريقيا)، هذا النوع من الاستثمارات استثار انتباه بعض «الوطنيين» والمشرّعين في الغرب الذين دقوا ناقوس الخطر على «السلامة الوطنية» بعد ظهور بضع صفقات بارزة مثل حصول مرافئ دبي على صفقة تشغيل مرافئ في الولايات المتحدة.

أخيراً، ضخّ أكثر من 14 مليار دولار في مؤسسات مالية غربية قيادية منها «سيتيغروب» و«ميريل لينش»، و«يو بي اس»، بعد نشوء أزمة القروض. لم يكن ذلك محطّ ترحيب للكثيرين، خصوصا المعارضة السياسية للبترودولار (عن ريبة عامة بالتمويل الأجنبي أو بتأثير العداء للعرب بعد أحداث 11 سبتمبر، أو بسبب اللوبي الاسرائيلي)، لكن المعارضة خفتت بعد ادراكها ان البديل كان أسوأ بكثير من ضخ السيولة من مصادرها العربية.

وفي هذا السياق، فإن السيولة الاضافية هذه من الصناديق المستقلة خفضت معدلات الفائدة عالمياً 75 نقطة في الأشهر الستة الماضية.

ففي الشهر الماضي شاركت في جلسة حوار خلال المنتدى الاقتصادي العالمي في دافوس. كان المشاركون معي خبراء بارزين بينهم حائز على جائزة نوبل، أجمع الكل على تنامي دور الصناديق المستقلة في الأسواق المالية، لكن الكثيرين كانوا ينادون باجراءات وقائية مثل الطلب الى هذه الصناديق أن تتعهد بالتزام قانون سلوك لم يحدد، بذلت جهداً كبيراً محاولاً اقناعهم أن أموال دول مجلس التعاون الخليجي ستزيد قيمة مقتنياتها والدول حيث تستثمر. قلت لهم «في الخمسينيات والستينيات كنتم تلوموننا لأن لا أموال لدينا، والآن تلوموننا لأننا نملك مالاً وفيراً. احترنا!

ومع ذلك، هناك فائدة من المعارضة «الغربية» لبترودولارات الخليج، فهي ستجعل الصناديق المستقلة تستمر في التركيز على آسيا ودول منظومة «مينا» كهدف لاستثماراتها، وهكذا فالدول غير المنتجة للنفط في «مينا»، مثل لبنان يجب أن تتهيأ للتنافس مع بقية دول العالم على مشاريع دول مجلس التعاون الخليجي واستثماراتها، لو كنت مكانكم لصليت كي ينتصر السياسيون الحمقى ودعاة الحماية في الغرب، متأثرين من دون شك باللوبي الاسرائيلي، فتتحول الاستثمارات الى العالم العربي.

أضف هنا أن الصناديق التي تسيطر عليها الحكومات ليست المصادر الوحيدة للبترودولار والاستثمارات. لقد خلفت مكاسب النفط ايضاً العديد من الثروات الخاصة، اذ أفادت شركات خاصة عديدة بطريقة مباشرة أو غير مباشرة من زيادة الانفاق الحكومي. ظهر العديد من اصحاب الملايين، وبعضهم جنى ثروته فقط من أسواق الأسهم الاقليمية، كلهم يبحثون عن فرصة للاستثمارات الاقليمية، في العقارات، في الأسهم، في الاندماجات أو في المشاريع الخضراء.

للأسف ما زال أمام لبنان ودول المشرق ودول شمال افريقيا طريق طويل قبل أن تصبح أسواقها جاذبة للاستثمارات، سأركز على المجالين الأهم المحتاجين إلى الاصلاح: الحكم والحَوْكمة. ومن الضروري الاهتمام بهما، فمستقبل السكان في معظم الدول العربية خارج مجلس التعاون الخليجي ما زال مخطوفاً من قبل الشعارات البالية التي دحرت خمسة أجيال من العرب، على تفاوت عباراتها والوجوه من ورائها.

قد تتساءلون لماذا أقول هذا لكم؟ وماذا يمكنكم فعله؟ جماعةً، بإمكانكم إحداث فرق، يجب أن تجدوا وسيلة فاعلة للتأثير في بيئتكم كي لا تفوتكم فرصة العمر هذه، ألا وهي الافادة من مكاسب النفط. قبل كل شيء، يجب ان تحولوا اوطانكم الى بيئات أكثر ترحيباً بالأعمال عبر اجراء الاصلاحات السياسية والتنظيمية اللازمة، وهذا يعني خفض المخاطر السياسية والتنظيمية للمستثمر، ويعني أيضاً الخصخصة، والشفافية الأكبر مما يمنح المستثمرين قدرة أكبر على تقويم المخاطر.

في المدى البعيد، إن استمرار التركيز على التعليم سيكون حيوياً، اذ ان الرأسمال البشري قد أصبح أول مصدر للتنافسية وخلق القيمة في عصر المعرفة هذا، هذه كانت دائماً ميزة تنافسية للبنان، مما يفسر توريده لهذا الكم من الرأسمال البشري الى العالم العربي وما هو أبعد منه. ولا شك في أن مكاسب النفط ستزيد الطلب على اللبنانيين المتعلمين والقادرين. أمنيتي الوحيدة هي أن أرى هجرة الأدمغة تتوقف وخلق بيئة تسمح بتوضيب الملكية الفردية والحرية الشخصية، بما فيها حق الحياة والسعي الى مستقبل أفضل، وحق الأقليات وحتى المهزومين في انتخابات ديموقراطية.

يمكن لمؤسسات الأعمال أن تؤدي قسطها في هذا السياق، فعليها التركيز على تطوير أعمال تنافسية تزيد من نمو الانتاجية واستخدام المعارف، عوض الحماية والمحاباة والتواطؤ بين أصحاب الأعمال والنخب السياسية.

الحَوْكمة الشركاتية الصالحة هي مجال آخر لكم لتركّزوا عليه، بغضّ النظر عن النظم والقوانين المحلية، فالالتزام بها لا يكفي. بل يجب أن تعملوا لبناء الثقة في ادارتكم للأعمال، لا يمكن للتشريعات أن تحل محل الثقة، فتدريب الناشئة على أهمية الحوكمة هو ما دفع بنك الكويت الوطني الى دعم برنامج الحوكمة الشركاتية في الجامعة الاميركية في بيروت.

اذا ركّزتم جهودكم على هذين المجالين، الحكم والحوكمة، فستساعدون دولكم على التنافس بنجاح لنيل حصتها من استثمارات دول مجلس التعاون الخليجي كما تهيئها لاجتذاب استثمارات أبعد وتحسنون الشروط للمستثمرين المحليين. يمكن لبنان تقديم الكثير للمستثمرين، فقط اذا وجد اللبنانيون طريقة لتجاوز المأزق، واذا أدركوا انه لا يمكن ترتيب منزلهم دفعة واحدة. تبدأون بالأولويات وبالادراك ان الحل الوسط ضروري، كذلك الفهم ان الحل يجب أن يكون انتصاراً متبادلاً. هذا صحيح في السياسة والأعمال، وهو الطريق لبناء الثقة، أتمنى لكم حظاً سعيداً. وأتمنى لكم أكثر أن ينتصر المنطق وتنقشع الرؤية.

(•) قدم هذا النص الرئيس التنفيذي لبنك الكويت الوطني ابراهيم دبدوب في كلية سليمان عليان لإدارة الأعمال في الجامعة الاميركية في بيروت (الإعداد لعصر جديد)