أخذ النظام العربي استقراره وطول عمره، وكان يجب ألا تستمر حالته طويلاً على ما استمرت، لولا أنها بُنيت أيضاً على قاعدة محلية من نُظم تبحث لاهثة عن استمرارها. فقد كان النظام تلبية إقليمية لنداء النظام الدولي آنذاك. لو كان المؤتمر الدولي للسلام، الذي دعت إليه الإدارة الأميركية – أم لم تدعُ بعد؟-، في عصر سابق آخر، لامتلأت الدنيا العربية صخباً وضجيجاً. لكن ذلك لا يحدث الآن، فالكل مشغولون بهموم أخرى، حتى المعنيون مباشرة بالموضوع. بل لعلّ غياب المنظومة الإعلامية- السياسية هو السبب المباشر لهذا الهدوء، في حين أن السبب الأعمق قد يكون في تفسّخ النظام الإقليمي العربي القديم.وعن ذلك النظام يختلف الناس على التعريف والتحديد أحياناً، ويخلطون بينه وبين «النظام» في أيّ بلد معيّن من البلدان العربية. وربما أن الكلمة بالأصل تختلف في لغات أخرى، فلا يدركها براحة ويسر إلا بعضهم، الذين كانوا أنفسهم غارقين في آلة وآليات ذلك النظام.هنالك خلط بين النظام الإقليمي العربي والجامعة العربية، أداته المباشرة الأكثر شهرة. فكأن كثيرين لا يرون فيه إلا مجموعاً جبرياً- أو هندسياً في أحسن الأحوال- للأنظمة العربية، وهذا عدل رغم ابتعاده عن الدقة. ومن ناحية أخرى، كانت الحِرفية باباً للغموض في تناوله من قبل باحثين كبار، مما أدى إلى أن يختصره آخرون ليجعلوا منه شيئاً مطابقاً لجملة الدول أو الشعوب أو للعالم أو الوطن العربي، وحتى الأمة العربية. لذلك، حين يسمع الناس منذ عقدين على الأقل أن هذا النظام يتفكك أو ينهار أو يغيب أو حتى يموت، ويسمعون أصداء ذلك وشظاياه، لا يصلون دائماً بخط واحد واضح ما بين طبيعته ومآله، بل بخط وهمي ملتبس لا يقدرون على تبريره.أفهم أن نظامنا الإقليمي قد وُلِد بعد الحرب العالمية الماضية مباشرة، ولا أفهم جيداً تحميله على وحدة وتعارض السياسات البريطانية والفرنسية آنذاك. فلعلّ سياسة الولايات المتحدة -المنتصر الأكبر في الحرب - هي العامل الخارجي الأهمّ في تأسيسه، وهنالك دور للبلدين الاستعماريين السابقين- في طور التراجع- ودور للاتحاد السوفييتي، وهو المنتصر الثاني الساعي إلى نيل البلدان الجديدة حقها في تقرير مصيرها، على المبدأ الأميركي الذي وضعه نيلسون في العقد الثاني من القرن الماضي. ودور الاتحاد السوفييتي المذكور كان واضحاً وصغيراً منذ البداية، قبل تقدمه الحثيث الواثق في ما بعد. فالنظام العربي ذاك إذاً كان ابناً لنتائج الحرب، ثم ترعرع في ظلال الحرب الباردة، و«نهضة» الشعوب، أو «نهضة» الأنظمة العربية وتحولاتها في ما بعد.على ذلك أخذ النظام العربي استقراره وطول عمره، وكان يجب ألا يستمر حاله طويلاً على ما استمرت، لولا أنها بُنيت أيضاً على قاعدة محلية من نُظم تبحث لاهثة عن استمرارها. فقد كان النظام تلبية إقليمية لنداء النظام الدولي آنذاك، حتى يعود هذا بدوره ويكفل استمرار أنظمة المنطقة ذاتها. وكان هذا أمراً نسبياً في البداية، ثم تحوّل إلى قاعدة مطلقة، أثمرت استقراراً مستمراً، واستمراراً مستقراً في ما بعد، حتى جاءت متغيرات النظام الدولي الكبرى الأخيرة، من انتهاء الحرب العالمية الباردة، وانهيار الاتحاد السوفييتي، واستقطاب العالم الجديد، وحروب العراق، حتى حادثة الحادي عشر من سبتمبر.قام ذلك النظام على التعاقد والتعاون والتكافل والاحترام المتبادل، وعلى الدفاع المشترك من غير عسكر، وعلى التعلّق بآمال وأحلام الأمة من غير قدرة على حماية فلسطين، ومن غير تحقيق لأي من مبادئ الوحدة الاقتصادية التي تم توقيع اتفاقها منذ عام 1956 (غالباً). لقد كان مورد ريّ وسقاية شرعيته في مسألة فلسطين، التي كان ضياعها «الإنجاز» الأول له بعد تأسيسه، كما في مسائل التضامن العربي التي حظيت بتأييد شعبي كبير في أعوام 1956 و1967 حتى عام 1973 الذي شهد مجد النظام الإقليمي مع حرب النفط وبتأثيرها المباشر، ولا مكان الآن لما هو غير مباشر.لعلّ أساس صعود وصمود النظام العربي ثم انهياره - الذي لم يُعلن رسمياً حتى الآن- قد كان في حق الفيتو المصون لكل حكومة عربية، ما عدا تلك المستضعفة بينها بالطبع. وحافظ على استقراره في الهزّات القديمة، وابتدأ انهياره مع الهزات الحديثة، منذ احتلال العراق للكويت، انحداراً حتى الآن. فكان «احترام» كل نظام من الأنظمة لاستمرار واستقرار أخيه ضمانة النظام الإقليمي. ذلك كله في جوّ دولي يغلّف التفاصيل المحلية، وينظر إلى أمن إسرائيل ومنابع النفط، ولا يرى في شعوب المنطقة قدرة على الحداثة والحرية والتقدم، فيعتمد الاستبداد بالأمر قاعدة ملائمة ومضمونة. فليس عيباً إذاً أن ننظر إلى تغيّر هذا الجو بترحيب حذر.فحالة الحماسة والفتور والتحضير والمواقف المختلفة كلها لمؤتمر واشنطن، موصولة إلى تلك الحالة المذكورة. ولذلك تدخل الدول العربية- أو لا تدخل- إلى مؤتمر واشنطن، من دون انتظام أو معنى.وبعد ذلك كلّه، لم نشعر بحزن في وداع ذلك النظام، ولا نشعر بفرح في استقبال هذا الاجتماع، وهذا ليس جيداً تماماً!*كاتب سوري
مقالات
مؤتمر دولي مقبل ونظام إقليمي مدبر
16-10-2007