في الستينيات والسبعينيات كنا لا نعرف من الشعر الروسي إلا باسترناك، يأتينا مصحوباً بتهمة «الفكر الرجعي»، حتى ان روايته (دكتور تشيفاغو) تُرجمت إلى العربية دون ذكر للمترجم ولا للناشر. ولم يكن مندلشتام، وأخماتوفا، وتسفيتاييفا، وبرودسكي، إلا ظلالاً محرمةً نجهلها تمام الجهل. كانت هذه الظاهرة في العراق مكثّفةً، مقارنةً بالبلدان العربية الأخرى،

Ad

وكان الشاعر إيديولوجيّاً، وانتسابه الفكري النظري (اليساري على الأغلب) أبرزَ وأهمَّ ما في هويته الثقافية والإنسانية، وبسبب تناحر الإيديولوجيات تناحَرَ الشعراءُ في ما بينهم، لا على أساس شعري وفني، بل على أساس عقائدي، وما كان أحدٌ يشعر أن هناك مفترقَ طريقٍ بين الشعر والانتساب العقائدي. الصحافةُ كانت منتسبةً هي الأخرى، ولكن الشاعر ما كان يعملُ صحافياً، بل يتعامل مع الصحافةِ ككاتب، فظاهرةُ الصحافي الشاعر برزتْ قويةً في ما بعد.

في الثمانينيات، مع الانهيارات المتلاحقة للعالم العربي على المستوى السياسي، والاجتماعي، والثقافي، حدثتْ ظاهرةُ الكثافةِ التي لا سابق لها في إصدارِ الصحف العربية، في الخليج والبلدان العربية، وفي أوروبا، ولندن بالتحديد. وكانت دولُ الخليج، ومازالتْ، المموّلَ الأساس، حتى الصحف التي لم تكن تنتسب لمؤسسة خليجية مباشرة، كانت تعتمد دعماً خليجياً معلناً، أو غير مُعلن.

وفرةٌ في الصحف، ووفرةٌ في فرص العمل ووفرةٌ في مكافآت الكُتّاب، ومن ثَمّ وفرةٌ في صفحات الثقافة والفن، هذه الوفرةُ أفرزت محرري صحافةٍ ثقافية كُثُراً. كما أفرزت بالضرورة كتاباً جدداً كُثراً، وجدوا في صفحات الثقافة أرضاً أكثر من ملائمة للإخصاب والتكاثر، جميعُ محرري الصفحات الثقافية فضّلوا أن يكونوا شعراء، لأن صفة «شاعر» عربي تنطوي على معنى أرفع من صفة «صحافي» عربي، للأسف، وإذا ما دخلتْ الصحافةَ موهبةٌ شعرية فستُرغم على التسطّح بالضرورة!

شعراءُ الصفحات الثقافية حقّقوا شهرةً كشعراء، بسبب موقعهم الإعلامي ، بلْ أصبحوا ذوي أهميةٍ ونفوذٍ ثقافي استثنائيين. حضورُهم للمهرجاناتِ الشعرية، والندواتِ الشعرية، والمؤتمراتِ الشعرية العربية أصبحَ ضرورةً لا يمكن تجاوزها، الأمرُ الذي جعلهم متنفّذين ومعتَمَدين في انتخاب الأسماء المشاركة، التي لا تتميز بالموهبة بالضرورة، بل بالفاعلية العضلية والنشاط الإعلامي.

هناك أكثر من انسجام بين المؤسسة الإعلامية الرسمية العربية، ومنظومة الصحافة الثقافية، وشعرائها، هذا الانسجام وجد ثمرتَه في ظاهرةٍ مُدهشة لا يمكن بلعها بيسر، هي ظاهرة الانتساب لأفق «ما بعد الحداثة» العربية، ضربٌ من محاولة تهريب مُتَعمَّد للمثقف العربي إلى أفق إيهامي، بعيدٍ عن واقعه الثقافي، مع أن مسيرة «الحداثة» العربية، التي بدأت صحية في النصف الأول من القرن العشرين، سرعان ما تعثّرت، واندحرت، وغدت رماداً.

لهذا السبب الإيهامي الندّية مع الغرب، استعارَ أكثرُهم من ظاهرةِ ما «بعد الحداثة» الغربية عناصر تُغطّي، مثل الأقنعة، أعراضَ النشاط العضلي المرضية، وحالةَ العجز الإبداعي، والفقر الثقافي؛ ولذا تجدهم يتبنون أكثر كتاب الغرب صعوبةً وإغلاقاً، مثل دريدا، وأدورنو، وفوكو. ويحرصون على محاكاة التيار الشعري، الذي يرى الشعر لغةً مغلقة على ذاتها، لا تُعنى بمصير الكائن خارجها، ويهجرون موسيقى الشعر لقصيدة النثر، ويتمرّدون على العقل!

مع ازدياد المحن والخراب العربيين، ومع ازدياد هجرة المثقفين إلى الغرب، بدتْ استجابةُ الغرب الثقافيةُ للحاضر العربي واضحةً، وعلى الأثر تزايدت مهرجاناتُ الشعر العربية على أرضه، أو مشاركات العرب في مهرجاناته الشعرية، ولكي يسهل عليهم إنجاز هذه المُهمة اعتمد منظمو هذه المهرجانات والندوات على هذه الشريحة النشيطة من شعراء الصحافة الثقافية العربية، فهي جاهزة، وعلى دراية بسبل الاتصال، وهي نافعة، بسبب هيمنتها على الإعلام الثقافي.

بهذا أصبح الصوتُ الشعريُّ العربيّ في المهرجان الغربي نسخةً طبق الأصل من الصوت الشعري في المهرجان العربي، مزيدٌ من الإضاءة لشاعر النشاط العضلي، ومزيدٌ من التعتيمِ على شاعر الموهبة.