مكونات الموزاييك التركي المتوقعة عن الانتخابات المقبلة ليست طارئة على المشهد السياسي، ولكن تركيبتها ستخرج بمشهد سياسي جديد، إذ تنبئ باتجاه خفوت حدة الانقسام بين العلمانيين والإسلاميين. فن الموزاييك فن شرقي بامتياز، فيه تصطف أحجار يصل عددها إلى عشرات الألوف بأشكال مختلفة وألوان متنوعة إلى جوار بعضها بعضا لتشكل سوياً لوحة فريدة، تستمد خصوصيتها من حرفة الصانع وجودة الأحجار وتميز شكل اللوحة. ولا يمكن استنساخ لوحة الموزاييك الأصلية لأن وضع حجر قبل آخر أو بلون آخر من شأنه أن يخلق لوحة جديدة تماماً. وتشتهر تركيا، خصوصاً مدن إزنيك وكوتاهية بصنع لوحات الموزاييك المستلهمة من التراث العثماني، ذلك الذي يشكل ركناً أساسياً من أركان الفن التركي الأصيل. دخل مصطلح الموزاييك باب العلوم السياسية من أوسع أبوابه للإشارة إلى تنوع وتنافر وتجانس العناصر في اللوحة السياسية لبلد ما، فيقال الموزاييك العرقي للبلدان التي تضم بين سكانها أعراقا متعددة، أو الموزاييك الطائفي للبلدان متعددة الطوائف وهكذا. ولأن تركيا ذاتها تشكل «موزاييكاً فريداً» من الأعراق (أترك، أكراد، عرب أرمن، شركس، لاز) والطوائف (السنة والعلويين والأرثوذكس) تجد مفردة الموزاييك في تركيا ترجمتها العملية الأدق. ولا يقتصر الموزاييك في تركيا الحالية على الطوائف والأعراق ولا على اللوحات الفنية الجميلة، بل يتعداها إلى الأحزاب السياسية التركية، التي تشكل لوحة فنية من نوع خاص. تترقب تركيا الانتخابات البرلمانية التي ستجرى في الثاني والعشرين من الشهر الحالي، والتي تستقطب اهتماماً إقليمياً ودولياً متزايداً بسبب التأثير السياسي التركي في جواره الجغرافي الذي يشهد مناخاً عاصفاً ومضطرباً. وتتصارع الأحزاب السياسية باتجاهاتها الفكرية والأيديولوجية المتنوعة للحصول على مقاعد البرلمان التركي البالغ عددها 550 مقعداً. ووفقاً لاستطلاعات الرأي التي أجرتها مؤسسة «كوندا» التركية الشهيرة بدقتها وحياديتها؛ يتصدر حزب «العدالة والتنمية» ذو المرجعية الإسلامية بزعامة رجب طيب أردوغان قائمة الأحزاب التركية المرشحة لدخول البرلمان. وتصل التوقعات لحزب «العدالة والتنمية» إلى نحو 42 في المئة من الأصوات، أما الكتلة الثانية الأكبر فهي –حسب التوقعات أيضاً- ستكون من نصيب حزب «الشعب الجمهوري» المدافع الأساسي عن العلمانية في تركيا؛ الذي يتزعمه دينيز بايكال، بنسبة أصوات قدرها 22 في المئة من الأصوات. حتى الآن النتيجة مشابهة للانتخابات البرلمانية الماضية التي جرت في نوفمبر من عام 2002، إذ تشكل البرلمان من كتلتين فقط، كتلة كبيرة لحزب «العدالة والتنمية» بعدد مقاعد بلغ 363 مقعداً، وكتلة صغيرة لحزب «الشعب الجمهوري» بعدد مقاعد بلغ 178 مقعداً. ولأن الأحزاب تحتاج إلى تخطي حاجز عشرة في المئة من الأصوات، تفشل الأحزاب في شغل ولو مقعد واحد في البرلمان حتى لو حصلت على نسبة أقل من حاجز العشرة في المئة. هكذا كان حال حزب «الطريق القويم» الذي حصل في الانتخابات الماضية على9.55 في المئة من الأصوات وبقي بالرغم من ذلك خارج البرلمان، وهو أيضاً حال حزب «الحركة القومية» الذي حصل على 8.34 في المئة من الأصوات. الجديد في استطلاعات الرأي للانتخابات المقبلة، هو أن حزب «الحركة القومية» بزعامة دولت باهشلي سيحصل على 11 في المئة من الأصوات ويُمثّل بالبرلمان. وفي حين قدرت استطلاعات الرأي أن نحو أربعين نائباً مستقلاً سيدخلون البرلمان القادم، فمن الأرجح ألا يتمكن الحزبان اليمينيان اللذان شاركا في رسم السياسة التركية بالتسعينيات من اجتياز حاجز العشرة في المئة ويبقيا بالتالي خارج أسوار البرلمان. وهذان الحزبان هما حزب «الطريق القويم» الذي يتزعمه محمد أغار (كانت رئيسة الوزراء السابقة تانسو شيللر من أبرز قياداته)، وحزب «الوطن الأم» الذي يتزعمه إركان ميمشو (كان رئيس الوزراء السابق مسعود يلماظ أبرز رموزه). وحسب الاستطلاعات أيضاً لن يتمكن «الحزب الديموقراطي» الذي يهيمن عليه أكراد تركيا من التأهل الى البرلمان، وهو حزب نشأ قبل عامين فقط عن اندماج حزبين كرديين هما حزب «الشعب الديموقراطي» بزعامة أحمد تورك، وحزب «الحركة من أجل المجتمع الديموقراطي» بزعامة أيشيل توجلوك. مكونات الموزاييك التركي المتوقعة ليست طارئة على المشهد السياسي، ولكن تركيبتها ستخرج بمشهد سياسي جديد، إذ من شأن تحقق نتائج استطلاعات الرأي أن يتغير المشهد السياسي باتجاه خفوت حدة الانقسام بين العلمانيين والإسلاميين. وبالمقابل سيظهر انقسام جديد بين القوميين ممثلين بحزب «الحركة القومية» المتحالف تقليدياً مع المؤسسة العسكرية من جهة، والمدنيين من بقية ألوان الطيف السياسي، من جهة أخرى. وفي حين ستبقى تداعيات الانقسام القديم محصورة داخل تركيا، سيترتب على الانقسام الجديد سياسة خارجية تركية أقل حساسية للانخراط في شؤون الجوار وملفاته الساخنة. كاتب وباحث مصري
مقالات
انتخابات تركيا: موزاييك جديد بأحجار قديمة
11-07-2007