يملك الروائي المصري يوسف القعيد أسلوباً بكراً في الكتابة يتناول قضايا وموضوعات كثيراً ما مررنا بها وربما لامسناها ولامستنا. لكنه حين يرتادها ويقدمها إلينا نفاجأ بها طازجة، تدهشنا تفاصيلها التي لم نرها عمقاً من قبل. واذا كانت للكتابة أسرار يعبر الأديب بها عن أفكاره بلغة توحي أكثر مما تفصح وتلمح أكثر مما تصرح ففي روايات القعيد تتعدد الافكار وتعبر عن نفسها بوضوح في أصوات أو شخوص منحازة للبسطاء والناس العاديين. تزخر مسيرتة الأدبية بالعديد من الاعمال منها «طرح البحر» و«حكايات الزمن الجريح» و«الضحك لم يعد ممكنا» و«لبن العصفور» و«الحرب فى بر مصر» و«وجع البعاد» و«شكاوى المصري الفصيح» و«قسمة الغرباء» و«بلد المحبوب» و«مرافقة البلبل فى القفص» وغيرها. ورغم تميز هذة الاعمال واختلافها عن النهج «المحفوظي» و«الإدريسي» إلا أن القعيد يواجَه دوماً بانه خرج من عباءتهما. هل خرجت حقاً من «عباءة» محفوظ وادريس؟طريقي إلى الرواية لم يمر عبر نجيب محفوظ لانه روائي المدينة المصرية بلا منازع ولم تكن المدينة طريقي. طريقي الروائي تمثل في القرية المصرية. وحتى الآن كلما حاولت الكتابة عن المدينة أشعر بدوار وأشعر بأنني سوف أفقد نفسي وأدواتي التعبيرية التي لا أجدها إلا في الكتابة عن القرية، رغم انني اعتبر الراحل نجيب محفوظ استاذي وأبي الروحي ولا أعتقد انه سيخلفه أحد على الإطلاق، فلا خلافة في الادب. الأدب ليس حكماً وليس سلطة. الأدب سلطة معنوية على الجماهير لا يمكن أن يرثها أحد وأختلف تماما عن أديبنا الراحل نجيب محفوظ فهو مؤسس ومؤصل لفن الرواية، لكننا قمنا بمغامرة بعده أضافت اليه الكثير. أما يوسف أدريس فتجاوزه الواقع وتجاوز القرية التي بشر بها وبالتالي أصبح إبداعه بالنسبة إلينا مرحلة تاريخية.بعد نوبل محفوظ ، هل تعتقد ان الجائزة يمكن أن تمنح مرة أخرى لأديب عربي في وقت قريب ؟ليس لدي أمل على الاطلاق في أن تعود نوبل مرة ثانية الى العرب. أستطيع القول ان هذه الجائزة حين منحت لأديبنا الراحل كانت لرغبة منهم في إعطائها للأدب العربي ولهذه المنطقة الجغرافية من العالم، خاصة ان نجيب محفوظ كان يستحق الجائزة قبل ان يحصل عليها بثلاثين عاماً على الاقل. عام 1958 نشر نجيب محفوظ الجزء الاول من «الثلاثية». بالمقارنة بين نوبل نجيب محفوظ ونوبل غارسيا ماركيز نجد ان نوبل نجيب محفوظ تحولت الى نوبل لنجيب محفوظ وحده لا للأدب العربي كله، في حين اتجهت نوبل ماركيز عام 1984 الى الأدب المكتوب بالاسبانية، أي أدب اميركا اللاتينية كلها. تُرجمت أعمالنا، أنا وجمال الغيطاني الى لغات العالم قبل ان يحصل أديبنا الراحل على «نوبل» بنحو عشر سنين، أي عام 1978، ومع ذلك تراجعت ترجمات هذا الأدب بعد ذلك بشكل رهيب جداً. أضف الى ذلك ان مؤسسة نوبل لا تولي وجهها باتجاه العالم العربي لكي تقدم جائزتها لأحد الكتاب بعد ثلاثة عشر عاما فحسب من فوز نجيب محفوظ بها. الامر الثاني هو رفض الغرب القاطع السماح لمنح نوبل للعرب مرة أخرى وسوف يقاوم ذلك بشدة والسنوات القادمة خير دليل على ما أقوله فالغرب لا يتحمّل صعود اسماء عربية جديدة.كيف تنظر إلى المشهد الثقافي على ضوء المستجدات التي يحياها العالم العربي اليوم؟المثقف هو المثقف ولسنا مضطرين الى استعمال مصطلحات أوروبية. ينغمس المثقف في هموم المجتمع. ثمة مثقف يعمل لمصلحته الشخصية ولا يلتزم بالعمل الاجتماعي ويعيش الغربة الداخلية والخارجية. هذه في نظري المفاهيم التي يجب ان نحدد بها من هو المثقف. في مطلع القرن العشرين كان المثقفون قلة في عالمنا العربي مثل طه حسين والعقاد. لكن الأمر تغير اليوم من الناحية العددية. لدينا ألوف المثقفين والمرحلة التي نمر فيها تحتاج الى المثقفين وتفعيل دورهم في مجتمعاتهم وخروجهم من عزلتهم كي يعبروا بحرية عن آرائهم وأفكارهم. في وقت يعيشون مشاكل مجتمعاتهم يتحررون من الغربة والنزعات الشخصية. على المؤسسات أن تعي ذلك وتمنح المثقف مساحات للعمل والتفكير.كثيرة الاتهامات والمزاعم الغربية التي تؤكد على أن الذهنية العربية تجنح نحو النقل لا النقد، ما رأيك؟ليس جديداً ما يوجهه الغرب من اتهامات للعقلية العربية. لكننا لا نستطيع قبول ما يقولونه عنّا. الذهنية العربية ليست تقليدية أو نقلية على الإطلاق. إنها كأي ذهنية أخرى في العالم محكومة بالظروف والواقع والتاريخ. ثمة تغير حصل، خاصة مع انتشار المؤسسات العلمية والثقافية. هناك جامعات ومراكز بحوث وأطر عديدة للاشتغال في الثقافة، بل هناك قيم لمؤسسات عربية تنطلق من النقد والمنهج العلمي، محاولة الخروج من المجتمعات التقليدية .هل ستنجح الرواية في قطف ثمار الشعر من حديقة الأدب العربي، خاصة بعد انحسار جمهوره ومريديه؟فرضت الرواية العربية نفسها على الواقع الأدبى بعدها شهدت ازدهاراً غير مسبوق على أيدي جيل من المبدعين الذين جدّدوا دمها ونوّعوا أساليبها فاضحت للرواية لغتها المتطورة التي تطرح أشكالها الجديدة في تركيبات فنية ولغة حية وموحية تكشف التفاصيل الدقيقة للحياة الاجتماعية. إستطاعت الرواية اعتلاء عرش المستقبل الأدبي وأصبحت بديلاً في معظم فنون الكتابة وفيها الشعر، لكونها أكثر الأنواع الادبية قدرة على التحليل والتعبير عن الواقع واستشراف المستقبل ولقدرتها على تناول الصراع المطروح داخل المجتمعات العربية والصراع المفروض عليها من الخارج. الأنواع الادبية الاخرى تستطيع ذلك لكن في شكل عابر وآنيّ من دون الدخول في تفاصيل شديدة التعقيد تطرحها الحياة نفسها. المؤشرات الآن تستوعب تجارب الشعوب العربية وتقترب من الصراعات الداخلية والحوادث الواقعية التي يشهدها التاريخ على مر عصوره. وليس مستبعداً ان يحل هذا النوع من الروايات مكان المؤرخ في حين يستطيع شعر المبدع العربي تقديم الحياة من وجهة نظر الناس في ظل غياب المؤرخ النزيه القادر على تقديم الحوادث بصدق. أضف إلى ذلك ان الرواية في اتجاهها الجديد تعتمد على تقديم الشخصية المغتربة في نزاعها الداخلي والخارجي، خاصة مع حاجة الفرد الى التعبير عن الانكسار والغربة والنفي داخل المجتمع الذي يفترض به أن يحويه. وستستمر الرواية في اكتساب لغة الشعر والارتقاء بها للتعبير عن كثافة الحياة اليوم.كيف تستشرف ملامح رواية المستقبل؟سيشهد مستقبل الرواية المزيد من الازدهار كتابة ونشراً وقراءة وتحويلاً إلى أطر فنية أخرى مثل التلفزيون والسينما والمسرح. ثمة اجتهادات فنية مثل ظاهرة كتابة البنات الروائية وتنوع الأصوات الجديدة في القصة والرواية والقدرة على التجريب والمغامرة بلا حدود ولا قيود ولا قواعد. هذه التفاعلات كلها تؤكد على المستقبل المشرق للرواية.لو انتقلنا الى الحديث عن يوسف القعيد الصحافي، هل نجحت فى فض الاشتباك بين المهنة والموهبة وهل تأكل الصحافة الأديب وتطغى على الموهبة لديه؟بلى، بل وطدت العلاقة بينهما إلى حدّ بعيد. أفادتني الصحافة كثيراً في كتاباتي الأدبية، رغم أن الاديب يقدس الكلمة ويرفع عنها الصحافي هالة القداسة. اول ما أفدت به من الصحافة التعبير المركّز المختصر وغير الفضفاض، كذلك الابتعاد عن الانفعالات العاطفية التي تكثر من الكلام وتعطي معاني أقل. أفادتني الصحافة في التعرف إلى مصر وجزء لا بأس به من بلدان العالم التي لولا عملي الصحافي لما زرتها. فضلاً عن الاطلاع الجيد على حقيقة ما يجري في مصر وليس ما هو معروف للعامة فحسب، فما يعلن ابعد ما يكون عن حقيقة ما يحصل. هذه الفوائد كلها كان ممكناً ان تخرب موهبتي الروائية لو عجزت عن فض الاشتباك بين الصحافة والأدب، بحيث يظل ما للصحافة للصحافة وما للأدب للأدب.
توابل - ثقافات
يوسف القعيد: لا خلافة في الأدب لأنه ليس سلطة
03-10-2007