حين يطلق على شخص ما كلمة «مثقف»، فإنه يخالجك مزيج من شعور غريب، شيء يشبه الاحترام والتقدير، أو الحيطة والحذر، فالإنسان المثقف يمكن أن يناقشك في أي شيء تتحدث فيه، ويمكن أن يقاطعك ويصوبك، أو يوافقك الرأي، ويمكن أن يصمت ويتأمل، أو يشرد بذهنه قليلاً، مهما تكن ردة الفعل، أو مسار الحديث، فإن الخلاصة التي يمكن أن ننتهي إليها واحدة، وهي أن الثقافة لها تبعاتها، ولها كذلك شروطها الاجتماعية، وخلفياتها العلمية التي تتأسس عليها، ولها التزاماتها الخلقية، تجاه المجتمع، والناس، والبيئة المحيطة، هذا أخذنا الثقافة بمفهومها الأشمل .

Ad

إلا أن ما يضعنا في كثير من الاشكالات هو ترسخ الوعي لدى بعض الناس أن مفهوم الثقافة مرتبط بالشعر والأدب فقط، وفي رأيي أن تغليب هذا الفهم الخاطىء، هو تغييب لوعي الجمهور، وفعل متعمد، أو غير متعمد، نسعى من خلاله لحجب الأفق، وتضييق المدى الأوسع الذي تمنحنا إياه المعرفة الحديثة.

إن الاتجاهات الحديثة للدراسات الثقافية تؤكد لنا أنه لم تعد هناك فوارق تذكر بين التخصصات الأدبية، وتلك المرتبطة بعلم الاجتماع، لا سيما منها المتخصصة (بالانثروبولوجيا) وعلم اجتماع الأدب، وكذلك الفلسفة، وهي المساند الرئيس للفكر النقدي، يضاف إلى هذا وذاك ما نتابعه بين حين وآخر من دراسات متعلقة (بالنقد الثقافي) واتجاهات ما بعد الحداثة.

المسميات كثيرة، والمصطلحات النقدية تتوارد إلينا، كما كل المنتجات والبضائع الغربية المصنعة «بلمسة زرّ» أو قدحة ذهن وشرود خيال، ليس يعنينا كثيراً المصطلح النقدي، بقدر ما يهمنا فحواه، وأثره على الإنسان /القارئ/ المتلقي.

أثبتت اتجاهات ما بعد الحداثة أن المعرفة الثقافية أوسع بكثير من ديوان شعر أو رواية أو دراسة في الفلك والتاريخ، فموسيقى (البوب) مثلاً معرفة ثقافية، وكذلك (الفلكلور) الشعبي والأزياء الحديثة، والمسرح بمختلف فنونه، ذات الطابع التجريبي أو العبثي، وكذلك فن العمارة الحديثة بستوياتها المختلفة، العمودية، أو الأفقية المنبسطة، وقد يغيب عن بال كثير منا أن العمارة مرتبطة بوجدان الإنسان وبثقافته وتاريخه. وإن كنا لا نغفل الجانب التجاري، أو الجمالي في المشاريع القائمة حديثاً إلا أنه لايمكننا أيضاً أن نضع العالم كله في صناديق ضيقة أشبه بعلب الكبريت- على حد تعبير مي غصوب- عبر بناء أفقي يمتد إلى ما لانهاية، قد يكون للضرورة الاقتصادية دورها، ولكن يبقى للإنسان خصوصيته، وثقافته، ووجدانه النابض الفعال .

إننا بحاجة إلى أن ندرك أن العمارة ثقافة، وكذلك الفن التشكيلي والمسرح، والموسيقى وعلم الاجتماع، والفكر النقدي، والأزياء، وعادات الشعوب وتقاليدها والقصيدة الجميلة، والرواية، والسياسة. أجل، السياسة أيضاً ثقافة، فهل يتسع ذهننا كي ندرك هذه الحقيقة، فربما يتاح لنا فيما بعد أن نفهم العالم بشكل أفضل!