تعتبر القيروان اشهر مدينة في المغرب العربي لكونها المركز الثقافي والديني والسياسي الأول الذي أنشأه الفاتحون المسلمون، وانطلقوا منه لفتح جزيرة صقلية وجنوب إيطاليا، فيما اتجه طارق بن زياد غرباً لفتح المغرب والأندلس. وما زالت القيروان تحتفظ بكثير من المعالم والشواهد على تلك الصفحة المشرقة من تاريخها عندما كانت عاصمة للمغرب الإسلامي. لكن اكثر مبانيها القديمة اندثر بفعل الزمن وباتت المنشآت الحديثة تطوق أسوارها من الخاصرة إلى الخاصرة، وأن ظل مسجدها الشهير بارزاً من وراء الأسرار يحكي شموخ الماضي العريق.ويمكن القول أن بعض المعالم التاريخية بات مزيجاً من الحداثة والتراث... مثل القلعة التركية التي كادت تندثر وتتحول إلى خراب لولا أن مشروعاً سياحياً أقيم فيها فنهض من بين أسوارها فندق فخم من فئة خمس نجوم يذكّر بقصور ملوك بني الأغلب الذين حكموا المنطقة طيلة اكثر من قرن. وفي الطريق إلى المسجد الكبير يعبر زائر القيروان الشوارع الضيقة المؤدية إلى المسجد والعابقة برائحة التاريخ والتراث فيلحظ شبهاً كبيراً بين بيوت القاهرة ودمشق والبيوت القيروانية. تمر عبر أسواق مسقوفة على طريقة العواصم المشرقية وتدلف من سوق الذهب إلى سوق السجاد ومن سوق «البلاغجية» (الأحذية) إلى سوق «الغرابلية» (صُناع الغرابيل). وعندما تصل إلى المسجد المبني بصخور ضخمة تشعر بالمهابة والعظمة فلا تتمالك نفسك من أن تدور حول سوره الخارجي الطويل مرة أو مرتين قبل أن تدلف من أحد الأبواب الرئيسة الأربعة إلى الصحن الداخلي.استكملت في العام الماضي أعمال الترميم. وتركزت على المئذنة ذات الشكل الهندسي الخاص الذي يرتفع فوق ثلاثة مربعات متراكبة تنتهي عند القمة في شكل نصف دائري. كذلك طاولت أعمال الترميم قنوات تجميع المياه في الصحن الفسيح التي ما زالت تحافظ على نظامها القديم.وتقول كتب التاريخ أن عقبة الذي أسس مدينة القيروان سنة 50 بعد الهجرة (670م) هو الذي وضع مخطط المسجد الذي حمل اسمه لاحقاً لكنه اصغر حجماً من المسجد الحالي لأنه كان متناسباً مع عدد سكان المدينة في تلك الفترة. واكتست القيروان في البدء طابع الثكنة العسكرية كما يدل إليه اسمها لكنها توسعت عمرانياً بعدما تحولت إلى أول عاصمة إسلامية في المغرب العربي. وشهدت المدينة أعمال توسعة أولى سنة 743م ثم أعمال توسعة ثانية سنة 774 إلى أن اتخذت شكلها الحالي سنة 836 عندما أعطى الأمير زيادة الله الأول أحد أمراء الآسرة الأغلبية أوامره بإعادة تخطيطها وبنى المئذنة الحالية لمسجد عقبة. إلا أن مصادر تاريخية أخرى تؤكد آن القائد العربي حسان بن نعمان هو الذي اخذ على عاتقه بناء الجامع الكبير على أساس ما شيده عقبة بن نافع ومضى يطوره ويوسعه بتأثير متواصل من الخليفة الأموي هشام بن عبدالملك حتى اخذ الجامع صورته العامة القريبة من الشكل الحالي.وقد شهدت القيروان إصلاحات وأعمال ترميم أخرى في سنوات مختلفة حتى أواخر القرن الماضي. ومن أهم الترميمات التي أجريت في المسجد خلال القرن العشرين تلك التي أدخلت على الهيكل الخارجي في الفترة 1970 و 1972 لمناسبة الاحتفال بمرور 13 قرناً على تأسيسه. ثم أجريت ترميمات بمساعدة اليونسكو (التي صنفت مسجد القيروان ضمن التراث الحضاري العالمي) في الفترة من 1986 إلى 1992 وشملت قاعة الصلاة والمئذنة والفناء الداخلي للمسجد.ولأن المسلمين الأوائل أدركوا انهم في منطقة ليس فيها من الأمطار القدر الكبير تحايلوا للمحافظة على المياه في المسجد بتأسيس خزانات عدة لتجميع مياه الأمطار وهي تعكس نظاماً هندسياً متطوراً لري المناطق الزراعية وتأمين المياه اللازمة لسكان المدينة. وما زالت هذه الخزانات قائمة إلى اليوم ويستند الباحثون على نظامها الدقيق لدرس مدى تطور العلوم في تلك الحقبة من تاريخ المنطقة.أما الأبواب المعروفة في جامع عقبة فهي الباب الغربي وباب الماء وباب لَلاَّ ريحانة وباب لَلاَّ صالحة وهو اجمل أبواب الجامع. ويعتبر باب قاعة الصلاة الكبرى باتساعه وزخرفه نموذجاً أصيلا وفريداً للعمارة والفن الإسلاميين. وتفتح قاعة الصلاة على أبواب عدة لعل أهمها الباب المتوسط المسمى «باب البهو» وهو من اصل اغلبي لا شك فيه.وأدخلت على الأبواب الأربعة بعض التغييرات التي عكست فنون الممالك والأسر التي حكمت تونس. فالدولة الحفصية تركت آثارها ولمساتها الفنية وكذلك الدولة الحسينية.ويعتبر منبر مسجد القيروان اقدم المنابر المعروفة في تونس وهو مصنوع من خشب رفيع والى جانبه ألواح منقوشة عدة. وحظي المنبر بعناية خاصة لأن الإمام الخطيب كان في الواقع الأمير. ويعتقد المؤرخون أن القيروان أنشئت على أنقاض مدينة رومانية بلغت درجة مرموقة من العمران والازدهار وهناك قرائن من نصوص وآثار تدل على ذلك.
توابل
مسجد القيروان... مازال يحكي شموخ الماضي العريق
10-10-2007