عندما تفتقد الدولة أو تبتعد بوضوح عن المقومات الثلاثة الحاكمة للعلاقة التعاقدية بين الدولة ومواطنيها، وهي الشرعية والعدالة والحياد، فإن تشدق المسؤولين والمؤسسات الرسمية بحماية النظام العام يتحول إلى حديث أجوف لا مضمون حقيقي، وهنا تصبح أشكال الاحتجاج السلمي كلها مشروعة ومقبولة.

Ad

لمفهوم «النظام العام» بريق خاص لدى دارسي السياسة. فالمفهوم في الجوهر يشير إلى علاقة تعاقدية بيننا كمواطنين وبين الدولة، تلزمنا الحفاظ على استقرار المجتمع وحدود الفعل السلمي في تعاملاتنا وتعطي الدولة ومؤسساتها الرسمية الحق في استخدام الأدوات كلها المتاحة والمنصوص عليها دستورياً وقانونياً، بما فيها العنف المشروع، لضمان هذا الالتزام ومن ثم حماية النظام العام كخير مشترك للجميع لا تقدم من دونه ولا ازدهار.

بيد أن لمثل هذه العلاقة التعاقدية بين المواطنين والدولة شروطاً رئيسية لا تستقيم من دونها ويمكن إيجازها في كلمات ثلاث هي: الشرعية، والعدالة، والحياد.

بدايةً، للدولة حق حماية النظام العام إن كانت تتمتع، ممثلة في مؤسساتها ونخبتها وقياداتها، بشرعية رضاء أغلبية واضحة من المواطنين عن أدائها. وعلى الرغم من أن الترتيبات الديمقراطية وفي القلب منها الانتخابات الحرة والدورية وما يترتب عليها من تداول للسلطة تمثل الوسيلة الأفضل للتعرف على درجة الرضاء الشعبي وحدود تقلباتها، فإنها ليست الوسيلة الوحيدة.

فالمجتمعات غير الديمقراطية لا تعدم وسائل بديلة لقياس الرضاء الشعبي تدور في المجمل حول ما يعرف في أدبيات علم السياسة بشرعية الإنجاز. فالدول الديكتاتورية والسلطوية قد تستحوذ، ولفترات قد تطول أو تقصر، على درجة مستقرة من الرضاء الشعبي ترتبط بالنجاح في تحقيق أهداف عليا كالتحرر الوطني والتنمية الاقتصادية والحد من الفوارق الطبقية ورفع مستويات معيشة المواطنين وغيرها.

ثانياً، للدولة حق حماية النظام العام شريطة أن تلتزم في أفعالها وممارساتها كافة تجاه المواطنين مبدأ العدالة بمضامينه القانونية. والحقيقة أن الترجمة المجتمعية لمبدأ العدالة لا تعني سوى استقرار حكم القانون أي أن يخضع الجميع حاكمين ومحكومين للنصوص الدستورية والقانونية نفسها، وأن تطبق عليهم من دون تمييز بما يستدعيه ذلك من إعمال لمبادئ الفصل بين السلطات والمسؤولية والمحاسبة. لا أتحدث هنا عن المعنى الاجتماعي للعدالة، فذلك على الرغم من أهميته هو أحد أهداف البشرية السامية التي ندر دوماً تحققها، بل عن مضمونها القانوني كأصل ملزم للدولة وأساس لفعلها. فلا يمكن الدفع بقدسية حماية النظام العام في مجتمعات لم يستقر بها بعد حكم القانون ولا تخضع بها مؤسسات الدولة للمسؤولية والمحاسبة ويكتشف بها الضعفاء من المواطنين أن ما يطبق عليهم باسم النظام العام يستثنى منه، كلاً أو جزءاً، أهل السلطة والنفوذ والمال.

ثالثاً، للدولة حق حماية النظام العام عندما تحترم قاعدة الحياد إزاء تعددية مكونات المجتمع، فلا تفرق بين المرأة والرجل وتساوي بين المواطنين بغض النظر عن اللون والعرق والدين. المقصود إذن هو أن تصبح الدولة دولة كل مواطنيها وأن يؤطر حيادها وما يرتبه من مساواة كاملة لحماية النظام العام. من ثم يصير لزاماً على الدولة أن تضمن، قانوناً وعملاً، الحق المتساوي للمواطنين في ممارسة حرياتهم العامة والمدنية وأن تحميهم من التعسف والاضطهاد التمييزي.

أما عندما تفتقد الدولة أو تبتعد بوضوح عن هذه المقومات الثلاثة، وذلك هو الحال في معظم البلدان العربية خارج منطقة الخليج، فإن تشدق المسؤولين والمؤسسات الرسمية بحماية النظام العام يتحول إلى حديث أجوف لا مضمون حقيقي له خارج الحد الأدنى المتمثل في حماية الأرواح والممتلكات. وهنا تصبح أشكال الاحتجاج السلمي كلها مشروعة ومقبولة، بل وواجبة في مواجهة دول تخفق في مهماتها الرئيسية.

* كبير باحثين بمؤسسة كارنيغي للسلام- واشنطن.