ربما يكون درس العراق بالتحديد هو ما حدا ساركوزي وإدارته على تغيير سياسة فرنسا الخارجية إلى درجة تسابق وزير خارجيتها في إطلاق التصريحات ضد إيران على طريقة صقور المحافظين الجدد، ولعل ذلك يجيب عن سؤال: لماذا يقوم كوشنير ذو الماضي اليساري والمتعاطف تاريخياً مع قضايا الشرق الأوسط بإطلاق تصريحات كهذه؟ أثارت تصريحات وزير الخارجية الفرنسي برنار كوشنير، حول توقعه حرباً قادمة ضد إيران، الكثير من القلق حول العالم، يعلم وزير الخارجية الفرنسي بحكم منصبه ما يجري في كواليس السياسة الدولية، فضلاً عن شهرته الواسعة بقراءة المؤشرات، وهو ما يعني أن الصراع الأميركي-الإيراني المحتدم في الملف النووي وفي الساحات الإقليمية الممتدة من غرب إيران حتى غزة قد وصل إلى مرحلة ما قبل الحسم. ويكرس اقتراح كوشنير بفرض عقوبات أوروبية خارج إطار الأمم المتحدة على إيران، مرحلة جديدة من العلاقات الإيرانية-الأوروبية من ناحية، والعلاقات الأميركية-الأوروبية من ناحية ثانية. شكلت إيران طوال سنوات نقطة افتراق في المصالح بين الدول الأوروبية والولايات المتحدة الأميركية، وظلت ألمانيا وفرنسا متمايزتين في مواقفهما حيال إيران سواء من ناحية التعامل مع ملفها النووي أو في ما يخص سبل التوصل إلى حلول. صحيح أن الدول الأوروبية والولايات المتحدة الأميركية تتفق جميعها في ضرورة منع إيران من امتلاك التكنولوجيا النووية، ولكن أوروبا لم تعارض استيراد إيران الوقود النووي لتوليد الطاقة منه وإعادته مرة ثانية إلى مصدريه وقدمت حزمة مزايا اقتصادية وتكنولوجية لحث طهران على قبول هذا الحل والتوقف في المقابل عن تخصيب اليورانيوم. أما واشنطن فرفضت منذ بداية المفاوضات الإيرانية-الأوروبية توريد الطاقة النووية إلى إيران، وفضلت من وقتها الضغط الدبلوماسي والدولي لإجبار طهران على الرضوخ لمطلب إيقاف التخصيب من دون تقديم أي مزايا، ومع التلويح المستمر باستخدام القوة العسكرية ضدها. تبارى رموز الإدارة الأميركية منذ العام 2002 في التلويح بضربات عسكرية ضد إيران وبصياغات متباينة تؤدي كلها إلى المضمون نفسه، مرة بأن «كل الخيارات على الطاولة»، ومرة أخرى بأنه «لا يمكن استبعاد الحل العسكري» وتارة بأن «واشنطن تفضل الحل الدبلوماسي، ولكنه ليس حلاً معروضاً إلى الأبد». تؤشر تصريحات كوشنير أيضاً إلى مرحلة جديدة في العلاقات الفرنسية-الأميركية بعد انتخاب ساركوزي رئيساً، وهي مرحلة يتعاون فيها الطرفان ولا يتصادمان بخصوص قضايا السياسة الخارجية كما حدث إبان رئاسة جاك شيراك في قضايا مثل العراق، حيث شكلت فرنسا معارضة قوية لتوجه واشنطن نحو شن حرب على العراق لم يفلح فيها «الفيتو» الروسي والفرنسي في منع بوش من احتلال العراق وشن الحرب خارج إطار الأمم المتحدة. وكان من نتائج هذه الحرب خروج الدول المعارضة لشن الحرب خالية الوفاض من كعكة العراق النفطية، وهو ما استتبع تراجعات متتالية في المواقف الأوروبية في محاولة للحصول على أي مزايا اقتصادية في العراق بسماح أميركي. ربما يكون درس العراق بالتحديد هو ما حدا ساركوزي وإدارته على تغيير سياسة فرنسا الخارجية إلى درجة تسابق وزير خارجيتها في إطلاق التصريحات ضد إيران على طريقة صقور المحافظين الجدد، ولعل ذلك يجيب عن سؤال: لماذا يقوم كوشنير ذو الماضي اليساري والمتعاطف تاريخياً مع قضايا الشرق الأوسط بإطلاق تصريحات كهذه؟ بنت إيران استراتيجياتها التفاوضية في الملف النووي على افتراضين أساسيين؛ أولهما، أن هناك هامشاً من الاختلاف في المصالح بين أوروبا وأميركا يجب على المفاوض الإيراني العمل على تعميقه وتكريسه، وهو ما حدث إبان المفاوضات الإيرانية مع الترويكا الأوروبية (ألمانيا وفرنسا وإنكلترا) عام 2003. ويعود الاهتمام الأوروبي بإيران – قبل تصريحات كوشنير- إلى أن أوروبا لم تر في تغيير النظام الإيراني واستبداله بنظام موال لواشنطن أي مصلحة تعود عليها بالفائدة، بل رأت أن لها مصالح نفطية وتجارية في إيران حتى مع بقاء نظامها الحالي ولكن مع تخفيف جرعته الأيديولوجية، ويقوم الافتراض الثاني، على فرضية أن العطش الصيني للنفط الذي يضع الصين في مقدم الدول المستوردة له في العالم سيدفع بكين إلى معارضة الجنوح الأميركي نحو شن أعمال عسكرية ضد إيران، ولهذا الغرض فقد أبرمت طهران مع بكين «صفقة القرن» بقيمة مئة مليار دولار للتنقيب عن النفط واستكشافه كي تخلق مصالح مباشرة لبكين، وبما يضمن تحريك الفيتو الصيني في مجلس الأمن لحماية إيران من توجيه ضربات عسكرية مغطاة بقرار من مجلس الأمن.تصريحات كوشنير هزت بشدة ما استقر لدى المفاوض الإيراني من وجود تناقض مصالحي بين أوروبا وأميركا، وأهميتها الفائقة تستمد في الواقع من حقيقة أنها سدت الثغرات القائمة في جدار الاصطفاف الغربي في مواجهة إيران.تحقيق المصالح كان هدفاً أبدياً للسياسة، ومع ذلك تعود العالم، منذ عصر الجنرال ديغول حتى جاك شيراك، على فرنسا عازمة على حماية استقلالها وتمايزها عن واشنطن في قضايا السياسة الخارجية، وحريصة على مصالحها أيضاً، كانت الدبلوماسية الفرنسية مثالاً فريداً لتحقيق المصالح الوطنية ولكن بحرفية جعلتها ترتبط وتتغطى بقيم العدالة والمساواة والاستقلال ومواجهة التفرد بالعالم، ولكن على الناحية المقابلة لا تفوت ملاحظة أن إدارة ساركوزي تجلس في مواقع السلطة الفرنسية عبر انتخابات ديموقراطية وأن التفويض الشعبي الممنوح لها يخولها اتخاذ القرارات السياسية بالطريقة التي تراها مناسبة لتحقيق مصالح فرنسا الوطنية، ربما يتوجب على العالم الآن توديع ما استقر في ذهنه أيضاً من مسلمات بشأن فرنسا، مثلما ينبغي على إيران مراجعة افتراضاتها الرئيسة في إدارتها للأزمة النووية، أما تصريحات كوشنير فلا يجب رؤيتها «إعلان حرب» ضد إيران، ولكنها تكشف أن سيناريو الحل العسكري للأزمة النووية الإيرانية قد صار مطروحاً بجدية ليس في واشنطن فحسب، ولكن في كواليس السياسة الدولية، أيضاً. * كاتب وباحث مصري
مقالات
كوشنير يؤشر إلى مرحلة جديدة في العلاقات الدولية
20-09-2007