الجريمة خلقها البشر. وجدت مذ خلق الله آدم أبو البشر جميعا. هي سلوك عدواني يلحق ضررا بالفرد والمجتمع. لم تنجح أي وسيلة في أي زمان أو مكان لمنع وقوع الجرائم. إنها جزء لايتجزأ من السلوك الإنساني وأحد مكونات الحياة في أي مجتمع، أياً تكن ثقافته أو مستواه الحضاري.

Ad

رغم التقدم التقني الذي شهده العالم في مجال اكتشاف الجرائم ومكافحتها فإن المجرمين يقومون في خط مواز بتطوير أساليب جرائمهم في محاولة لتضليل السلطات عن مطاردتهم وإنزال العقاب بهم.

بخلاف ما يسمى «المجرم بالصدفة» الذى يرتكب نوعا من الجرائم من دون إعداد أو تخطيط مسبق، ثمة المجرمون العتاة الذين يتميزون بتركيبة إجرامية ذات سمات خاصة وتفشل كل الطرق فى إصلاحهم وتهذيبهم كما تفشل كل أنواع العقاب، مهما بلغت قسوتها، في ردعهم.

عالم الجريمة مثير لما ينطوي عليه من رعب وتشويق. وإن كان عالماً صغيراً، إلا أنه يعكس الحياة البشرية بأكملها إذ يمثل حالة الصراع الدائم بين الخير والشر، بين العدل والظلم، بين القوة والضعف، بين الفضيلة والرزيلة.

نقدم هذا العالم الغريب في حلقات متتالية، من مصر بلد التاريخ والحضارات المختلفة، بلد الجوامع والكنائس، بلد الهرم والنيل، لكن أيضا بلد «الخط» وريا وسكينة والتوربيني.

بعد مصرع المجرم محمد منصورالمشهور بلقب «خط الصعيد»، شكلت قصته ما يشبه الحلم لمجرمين كثر مطاردين ومظلومين ضاقت بهم سبل العيش ولم يجدوا ما يشجعهم على حياة اجتماعية طبيعية. أصبح الخُط محمد منصور مثلا لبعضهم فحذوا حذوه إذ تركوا العيش وسط مجتمعهم مختارين أعالي الجبال حيث المغائر والكهوف والذئاب والزواحف القاتلة. إلا أن جو المغامرة والإثارة كان يشبع شيئا لديهم وساعدت البيئة الصعيدية في نمو ظاهرة المجرمين الخطيرين واستفحالها فالسلاح متوافر والمستوى التعليمي آنذاك كان معدماً. كانت القوة هي الحسب والنسب. ساعدت أيضاً طبيعة المنطقة على نمو ظاهرة المطاردين لبطء ضبطهم فالجبال تحيط بالمناطق المأهولة بالسكان على امتداد الضفة الشرقية للنيل وزراعات القصب التي تسهل عمليات الإختفاء وسط عيدانه الطويلة وبالتالي صعوبة المطاردة فيها.

تلك العوامل مجتمعة ساعدت على تفشي ظاهرة المطاردين الذين بدأت رحلتهم مع الإجرام بطلقة واحدة لكن مع توافر العوامل السابقة، ولد عتاة الإجرام في هذه المنطقة من جنوب مصر. هنا سيرة ثلاثة من خلفاء الخُط الكبير وحلقات أخرى لاحقة مع مجرمي الصعيد.

بعد مقتل الخط ظهر مجرمون كثر انتهجوا نهجه لكن أكثرهم لم يتمكن من الصمود أمام مطاردة الشرطة فسقط سريعاً. بقي ثلاثة صمدوا سنوات أمام مطاردة الشرطة مرتكبين عشرات الجرائم. في هذه الحلقة قصة ثلاثة أثاروا الرعب في قلوب أهل الصعيد.

الخُط الطـائر

لُقّب بـ «وحش الجبل». إسمه الحقيقي هدية رفاعي الذي لازم سفح الجبل 22 سنة متواصلة ليغادره لاحقاً بمحض إرادته بعد إسقاط العقوبات لمرور الزمن. عاش أيامه المتبقية في قريته المشايعة الواقعة في حضن الجبل الغربي بين سوهاج وأسيوط حتى وفاته على فراشه بين زوجته وأبنائه.

كان هدية رفاعي في العشرينات من عمره حين أطلق الرصاصة القاتلة الأولى من بندقيته في مطلع الأربعينات من القرن الفائت. كان حينذاك مزارعاً بسيطاً. وثمة بين عائلته وعائلة حسين «أنهار من الدم» بسبب عادة الثأر القبيحة.

ذات صباح فوجىء بمصرع والده على يد عائلة حسين. لم يذرف دمعة، كما لم يتقبل العزاء تاركاً قبره بلا طلاء ما يعني (في عرفهم) أن ثمة من سيأخذ بثأر الميت. لم ينتظر هدية طويلا. كانت بندقيته جاهزة تماماً، والضحية كذلك. كان مملوء القلب بروح الانتقام وتم له ما أراد فطلى قبر والده بالجير الأبيض كما تقضى العادات ثم ما لبث أن قُبض عليه. قضى عقوبة 10 سنوات سجناً ليعود الى قريته وقد ناهز الثلاثين من العمر.

فوجىء إثر عودته بمصرع شقيقه على يد أسرة حسين. طلبت منه العائلة الأخذ بثأر أخيه. طلب أياماً مهلة يستنشق خلالها هواء الحرية، ليقصد حقله يرويه بنفسه بعد غياب عشر سنوات.

بينما كان في الحقل قصده خمسة من أفراد عائلة حسين وراحوا يتهمونه بالاعتداء على حقولهم. ثم تحولت المشادة الكلامية إلى توجيه إهانات له ولعائلته فغلى الدم في عروقه واتجه فوراً إلى شجرة عند مشارف الحقل. كان أخفى بندقيته تحتها ليطلق الرصاص على أفراد عائلة حسين. في ثوانٍ معدودات سقطوا جميعاً جثثاً هامدة ثم وجد نفسه ملقى القبض عليه لينتهي أمره في سجن أبو زعبل مرة جديدة ليمضي عقوبة الأشغال الشاقة المؤبدة، غير أنه قرر هذه المرة الهرب حتى لو دفع حياته ثمناً. الموت اكثر رحمة مما هو عليه. بعد عامين من دخوله السجن نجح في الفرار.

رغم سعة أرض الله وبلاده قرر العودة إلى بلدته، كالخراف التي لا تعرف الأمان إلا في مرعاها، واستقر به المقام في كوخ صغير في حضن الجبل عند سفح قريته مطلقاً لحيته مدّعياً أنه من عباد الله وأوليائه الصالحين الزاهدين ذوي الكرامات وصدقه ذوو العقول الضحلة فوجد في ذلك وسيلة يتكسب بها عدة قروش ليقتات مستمراً قرابة عامين.

خلال هذه الفترة قتلت عائلة حسين عدداً من أفراد أسرته وإذ بلغته الأخبار أقسم أن يشعلها ناراً فحلق لحيته وقرر الصعود الى الجبل فتلقفه المطاردون بصدور رحبة لأن شهرته سبقته وأيضاً دماء ضحاياه الستّ التي تكفي لتنصيبه زعيماً على مجموعة من المطاردين. قام بعد ذلك بقتل عمدة البلد فصدر بحقه حكم جديد قضى بالمؤبد لكنه كان حكماً غيابياً.

نسج من يتلطّى خلف هدية هالة من البطولات والأعمال الخطيرة ما جعل عائلة حسين تقبل الصلح مع عائلته. فاجتمع كبار العائلتين وقرأوا الفاتحة متعاهدين على وقف نزيف الدم.

بعد أشهر قليلة فوجىء هدية بابن عمه عبد البصير يدخل مغارته حاملاً بندقيته وجلبابه ملطّخ بالدماء، وعلامات الخوف مرتسمة على وجهه، فروى لهدية أنه حين كان يروي حقله من ماكينة القرية وقع خلاف مع أولاد حسين على أولوية الري تطور الخلاف إلى معركة انهال فيها أفراد عائلة حسين عليه ضربا بالعصي حتى سالت دماؤه. لكنه تحامل على نفسه وذهب إلى بيته ليحضر بندقيته، وبينما هو يخرج قابله أحد أفراد عائلة حسين أصابه فقرر الهرب إليه.

ثار هدية على ابن عمه لأنه خان العهد والفاتحة التي قرأوها. دعا ابن عمه ألا يخرج من المغارة حتى يقوم هو بتسوية الموضوع فأرسل إلى عائلة حسين يخبرهم أنه حزين لما جرى، وأن عبدالبصير رهينة عنده، ومستعد لتسليمه إليهم ليقتلوه أو ليسلموه إلى الشرطة. جاءه الرد مرحباً من عائلة حسين على أن يستقبلوه هو وابن عمه وإذ هم هدية بالنزول الى القرية حذره رجاله من أن يكون في الأمر فخ وقد يغدرون بهما لكنه أصر على الذهاب.

كان هدية وعبدالبصير يسيران ملثمين. عند مدخل القرية فوجىء الإثنان بوابل من طلقات الرصاص فقتل عبدالبصيرأمام عينيّ هدية أما هدّية فأصيب في قدمه فسقط على الأرض متظاهرا بالموت إذ كان الرصاص ينهمر من كل جانب. دنا أفراد عائلة حسين من «جثمانه» فانتظر حتى يقتربوا أكثر، ثم نهض بخفة الفهد ممسكاً بندقيته، وأطلق الرصاص فقتل سبعة منهم للتوّ.

هكذا كتب على هدية أن يبقى مع المطاردين إثر دماء كثيرة أودت بحياة 13 فرداً من اسرة واحدة ثم تمكن من قتل مجرم مشهور يدعى أبوهاشم من سوهاج. الى ذلك بسط سطوته على سكان المنطقة كلها وأشاع الذعر في سوهاج وما حولها، الى حدّ رصدت الداخلية ألف جنيه مكافأة لمن يساهم في القبض عليه، فأصبح سيد الجبل من غير منازع وعرف أيضا بــ «وحش الجبل» .

في أوائل السبعينات قرر هدية الانحدار من الجبل بعد تبلّغه سقوط الأحكام الصادرة ضده بالتقادم، حيث بقي في الجبل 22 سنة متوالية وكان قارب الستين حين أعلن توبته.

 

الخُط يونس

في منتصف الخمسينات ظهر في الصعيد مجرم جديد يحمل لقب «خُط». لم يكن أخطر الذين حملوا هذا اللقب، لكنه أكثرهم جرأة إذ كان قاتلا مأجوراً لا يتردد في تنفيذ جريمته بأي شكل ليقبض أتعابه كاملة. لذا غالباً ما قتل ضحاياه في الشوارع والميادين العامة وداخل مدينة أسيوط نفسها.

الخُط المعني هنا اسمه محمد يونس وشهرته «يونس». تزعم عصابة من 13 مجرماً انتقاهم بعناية من قرى ونجوع أسيوط كما فعل الخط الأكثر شهرة محمد منصور. كان يونس يقتدي به في أي شيء قائلاً عنه: «عمي» !!

كان يونس قاتلاً محترفاً، يقتل أناسا لا يعرفهم ولا يعرفونه. لا يهمّه إن كانوا مظلومين أو ظالمين. يقتل لحساب الآخرين ولكل رأس عنده ثمن يتناسب مع قيمة الضحيّة. الحد الأدنى خمسون جنيها وبعض الضحايا قبض لقاءها مائة ومائتين من الجنيهات. كان يقبض نصف المبلغ قبل التنفيذ وما تبقّى بعد تنفيذ جريمته وإرسال الضحية الى دار الآخرة.

بلغت شهرة يونس مداها عام 1957، حين وصل عدد بلاغات القتل إلى 48 بلاغاً خلال شهر واحد. نتيجة لهذا العدد الهائل من جرائم القتل المنسوب معظمها إلى يونس لم يعد أحد يجرؤ على الشهادة أمام الشرطة أو النيابة في أي جريمة قتل، خوفا من انتقامه. شجع هذا يونس، الى درجة أن أصبح يقوم بجرائمه داخل مدينة أسيوط نفسها لا في القرى فحسب، حتى أنه أطلق الرصاص على أحد الشخصيات في أسيوط بقصد قتله فأصابه فقط وخاف المجنيّ عليه من الاعتراف حتى بعد ان قبض على يونس كمشتبه فيه. وقف في طابور عرض ومر أمامه الضحية من دون أن يشير اليه مؤكداً للضباط ولوكيل النيابة أن الشخص الذي أطلق عليه الرصاص غير موجود في طابور العرض.

الغريب في الأمر أنه قصد هذه الشخصية في المنزل لا ليشكره بل ليتهمه بأنه هو الذي أبلغ عنه فأجابه: «لو كنت أنا الذي أبلغت عنك لكنت أوشيت بك في طابور العرض». رغم ذلك فرض عليه إتاوة طالباً مائتي جنيه على اعتبار أن الأمن صادر بندقيته الآلية وثمنها مائة جنيه والمحامي قبض مائة أخرى.

في الأسبوع نفسه قام بإطلاق النار على اثنين فأرداهما قتيلين ورغم تأكيد التحريات كافة على أنه هو الفاعل لم يكن أحد ليجرؤ ويعترف فلم يكن أمام مدير الأمن في أسيوط إلا استصدار قرار من وزير الداخلية باعتقاله. بعد أشهر من سجنه بدأت سحابات الخوف تنجلي لدى الناس وتوالت الاعترافات ضده فقدم للعدالة.

 

الخُط أبو عمـر

يتوالى مسلسل حكايات الخط فيظهر في أسيوط أيضا مجرم رابع لُقّب بـ«الخط» وهو عبده سيد عمر المشهور بأبوعمر. بدأ رحلته في عالم الإجرام باكراً، قبل بلوغ العشرين من العمر، في بلدته الصغيرة الجبورة التابعة لمركز الغنايم شرق أسيوط حيث ارتكب جريمتي قتل فصدر ضده حكمان غيابيان بالسجن لمدة 35 سنة، قرر آنذاك أن يكون من المطاردين موقناً أن أي خطأ سيكلفه السجن مدى الحياة.

انتقل الخط الجديد للعيش داخل مغارة في أحد الجبال جامعاً عدداً من المطاردين بلغ أحياناً 150 فرداً كان يغدق عليهم المال والسلاح. كان له ثلاث بنات من زوجته التي ارتبط بها وهو في التاسعة عشرة لكنه كان يتوق لإنجاب ذكر، فكلف شقيقه محمد، الذي كان ساعده الأيمن، بأن يختار له عروسا. قصد محمد منزل حماه طالباً منه يد شقيقة زوجته وتدعى هوانم لشقيقه الخط. رفض حماه بداية لكن محمد هدده قائلاً: «حين يطلب الخط شيئاً لا بد من تنفيذه. سوف يتزوجها سواء شئت أم أبيت وسواء كنت حياً أو ميتاً». وافق الأب على تزويج ابنته هوانم ذات الـ 15 عاماً إلى الخط فزفت إليه في أحضان الجبل.

لكن السؤال الذي شغل بال الشرطة طويلاً: «من أين يأتي الخط بهذه الأموال التي يجمع بواسطتها كل هذا العدد من المطاردين حوله». بعد شهور من التحريات تم حل اللغز. اغتصب مائتي فدان من أصحابها ويقوم بزراعتها بالنباتات المخدرة، مقيماً حولها حراسة شديدة وتلك تدر عليه نحو مائة ألف جنيه سنوياً بأسعار أواخر الستينات ويعتبر المبلغ ضخما للغاية آنذاك، وغالبية الذين كانوا يزرعون الحشيش في المناطق المجاورة يبيعونه بضاعتهم ليتولى هو تصريفها.

صُدمت هوانم زوجته باعتباره مجنوناً أو «ملبوس بجنّي»، إذ يثور لأتفه الأسباب مستخدماً بندقيته لأي انفعال. ينسب ذلك الى كميات الأفيون التي يتعاطاها، ناهيك بالحشيش الذي يغليه مع القهوة ويحتسيه فلا يغمض له جفن ليلاً ويظل متيقظا بينما باقي رجاله يغطون في النوم.

كان وزير الداخلية وقتذاك السيد شعراوي جمعة، يتابع بنفسه أيّ معلومات بشأنه، مشدداً على ضرورة إلقاء القبض عليه حياً أو ميتاً بأسرع وقت. إثر التحريات المكثفة وردت معلومة مفادها أن زوجته وعدداً من أقاربه قصدوا القاهرة ويقيمون في المنزل رقم 17 في شارع عبدالخالق صابر في مدينة الزهراء (جنوب مصر القديمة). للفور داهمت قوة من مباحث القاهرة المكان ورغم التحقيق واستخدام وسائل الضغط كافة لم يعترف أي منهم بشيء عن الخط لكن رجال المباحث استنتجوا أن وجود كل هذا العدد من أفراد العائلة في القاهرة قد تكون له دلالة معينة، كأن يكون تمهيدا لهرب الخط واللحاق بهم، خاصة بعد تضييق الخناق عليه في قريته.

كانت الكمائن المحيطة ببلدة الخط في حالة استنفار دائم على مدى 24 ساعة. في الساعة الثانية والنصف بعد منتصف الليل في ليلة مقمرة لاحظ ضباط وجنود أحد المواقع شبح ثلاثة رجال، وإذ اقتربوا من الموقع أمرهم رجال الأمن بالتوقف فهرب إثنان لكن الخط الذي كان ثالثهم سحب بندقيته الآلية وقبل أن يضغط على زنادها كان رجال الشرطة أمطروه بوابل من الرصاص.

جاءت زوجته هوانم تحمل طفلها الرضيع ابن الخمسين يوماً. تعرفت الى زوجها وهي تضع يدها على عيني ابنها كي لايرى أبيه، في حين كان سكان البلدة ومعهم رجال الأمن يتبادلون التهاني. سقط آخر خط في الصعيد ومنذ ذلك التاريخ لم يظهر له أي خليفة سوى الفنان عادل إمام الذي أدى دور البطولة في فيلم سينمائي كوميدي تحت عنوان «احترس من الخط» مردداً أنه الخِط (بكسر الخاء) خليفة الخُط (بضم الخاء). وشاركته البطولة الفنانة لبلبة.