سليم نكد

هذا هو العنوان على الغلاف الخارجيّ. أمّا في الداخل فيُضاف إليه: «في كتاب العظمة وفنّ السرد العربي»، ممّا يدفع القارئ إلى التساؤل: هل هي دراسة عامة عن «الأدب العجائبيّ والعالم الغرائبيّ» وفنّ السرد العربي؟ أو هي دراسة خاصة لكتاب «العظمة»؟ وما هو كتاب «العظمة»؟ ولماذا لم يُذكر على الغلاف إذا كان هو الموضوع الرئيسي؟

Ad

أسئلة يطرحها القارئ وهو ما يزال بين الغلاف والصفحة الأولى من الكتاب. فهل هو أسلوب من أساليب التشويق وإثارة الفضول انسجاماً مع مضمون «عجائبيّ» و«غرائبيّ»؟

لا يلبث القارئ أن يدرك أن الكتاب تحقيق لمخطوطة عنوانها «كتاب العظمة» تطبع للمرة الأولى وقد صدّرها المحقق د. كمال أبو ديب بمقدمة طويلة تحت عنوان «فاتحات» يتناول فيها فنّ السرد في «كتاب العظمة» وينسبه إلى الأدب العجائبيّ أو الغرائبي.

يعود القارئ الى التساؤل: أما كان من الأجدى والأقرب إلى المنطق أن يبدأ بوصف المخطوطة أولاً ثم يعرض مضمونها، ثم يثبتها كاملة محققة ويلحقها أخيراً بالدراسة التحليلية؟

وإذ نشارك «القارئ» تساؤلاته، نتّبع هذا التصميم في عرض الكتاب.

يذكر المحقق، د. أبو ديب أنه عثر على المخطوطة في أوائل السبعينات بالمصادفة وهو يراجع فهارس المخطوطات في مكتبة بودلي في جامعة أوكسفورد يحدوه هاجس الكشف عن آثار عربية مغمورة ومتميزة تبرز جوانب من الإبداعية العربية كثيراً ما أنكرها أو تجاهلها الباحثون عرباً وأجانب، وهي، إذا نُشرت، تصحّح النظرة الى التاريخ والتراث العربي وتملأ ما يُعتبر فراغات فيه.

لا تحمل المخطوطة اسم مؤلّف وينسبها بروكلمان خطأً إلى الإمام أبي حامد الغزالي، ذلك أن الأسلوب والمضمون الديني مختلفان كما يرى د. أبو ديب. والذي يزيد الأمور تعقيداً أن عدّة مخطوطات تحمل العنوان ذاته لمؤلفين مختلفين من بينهم ابن عربي والأصفهاني وابن أبي الدنيا وابو العبّاس الحميريّ القمّي الشيعيّ. وبعد تردد يرجح المحقق أن يكون هذا الأخير هو المؤلف.

لمحات

يدور الكتاب حول عظمة الله ووصف مخلوقاته في السماوات والأرض وما تحت الثرى من الملائكة ومختلف الخلائق، كما يصف النار المعدّة للكافرين والجنة المعدّة للصالحين. يذكر المؤلف أن الله نزّل على آدم بواسطة جبرائيل العلم الذي ذكره في كتابه المنزّل: «وعلّم آدم الأسماء كلّها»، فصوّر له ما كان وما هو كائن وما سيكون وذكر الطوفان وما يغرق من الأرض، فخشي آدم على العلم أن يذهب فكتبه على ألواح من طين وخبأها في مغارة يقال لها (المانعة) في جبل يقال له (المنديل) في سرنديب بالهند؛ والمغارة منغلقة لا تنفتح إلاّ مرةً في السنة في يوم عاشوراء. وردت الأخبار الى النبي دانيال فذهب الى المغارة مع عدد من تلامذته يوم عاشوراء مجهّزين بأدوات الكتابة ونقلوا جميع ما أرادوا ووضع دانيال هذا العلم على صحائف من نحاس، وبعد وفاته نشرها الله في الدنيا.

وفي سلسلة من الروايات المسنّدة الشبيهة باسانيد الأحاديث النبوية، يقول الحسن بن الحسن البصريّ: دخلتُ على أمير المؤمنين عثمان بن عفّان، فقال عثمان: سبحان من خلف الخلق ونشر الأمم في الأرض في البر والبحر والسهل والجبل... فقال عبد الله بن سلام (وهو حبر يهودي اعتنق الإسلام وأحد أركان رواية الحديث النبويّ): في كتاب «الدفائن» لدانيال ذكر لما خلق الله مما لا تدركه العقول وما لا يمكن وصفه، وما تقوله يا أمير المؤمنين عن هذه الدنيا، فما هي إلاّ كوكب صغير بين الكواكب في السماء. ويروي عبد الله بن سلام لأمير المؤمنين ما وجده في هذا الكتاب. من ذلك أن الله خلق المهوى وطوله ألف ألف ألف سنة وعلى جانب البحر عن يمينه ألف ألف ألف مدينة وعن شماله مثل ذلك، ولكل مدينة عشرون ألف مرج في كل مرج عشرون ألف روضة... فيهتف عثمان: لا إله إلاّ الله الملك القدوس. ويكمل الراوي وصفه لمخلوقات الله وعجائبها:أرض من حديد بينها وبين البحر مسيرة ثلاثة آلاف ألف ألف ألف سنة، وقد ألان الحديد فيفلحون ويزرعون ويغرسون الأشجار التي تتخللها الأنهار، وعلى تلك الأشجار طيور كالجمال أرجلها مثل أرجل الطيور ووجوهها كوجوه الناس... وتستمر الأوصاف لمخلوقات بالغة الضخامة، مقاييس طولها وعرضها بآلاف آلاف السنوات.

من الأوصاف الرائعة والمريعة وصف جهنّم وما يقاسيه الهالكون من ألوان العذاب: «وجعل في جهنّم ألف ألف بحر الى تسعمائة ألف ألف بحر من النار، أمواجها تتلاطم، فيها الزبانية سود مثل الجبال، لكل واحد منهم ألف عنق، في كل عنق ألف رأس، في كل رأس ألف وجه، في كل وجه ألف فم، في كل فم ألسن وأنياب طول كل سنّ مسيرة خمسمائة فرسخ»...

ابداع ادبي

يقول د. أبو ديب: «بمثل هذا النص يحقّ للإبداعية العربيّة أن تنسب لنفسها في سياق التاريخ الأدبي الذي كانت تعيه، ابتكار فنّ أدبي جديد هو فنّ العجائبي والخوارقيّ، فنّ اللاّمحدود واللاّمألوف، فنّ الخيال المتجاوز الطليق وابتكار المتخيّل الذي لا تحدّه حدود». وفي مواضع اخرى من المقدمة: «هكذا يبتكر النص نهجاً بديعاً في التعامل مع المختلف، الخياليّ، اللامعقول، الجامح، المتجاوز حدود التاريخي والمعقول بترسيخه وتجذيره في التاريخيّ والمعقول»... «وقد يكون كتاب العظمة اول نصّ سرديّ ينجز هذا الإنجاز الفني العظيم...».

بهذا الاسلوب التحليلي والتذوقيّ الانفعالي الذي يتخذ احياناً لهجة سجالية، تستمر المقدمة من فاتحة الى فاتحة. انه موقف قارئ محلّل ومتذوق في آن واحد، مزهوّ باكتشافه أثراً هو من كنوز التراث العربي يعتبره نموذجاً للإبداعية العربية، وكأن هذا الموقف رد فعل على مواقف بعض المتكربين او الجاهلين او قاصري النظر من الدارسين العرب والاجانب. انه نموذج للنقد الحيّ الذي بتنا نفتقده اليوم في النقد الادبي الحديث المسكون بهاجس علمويّ إحصائي تشريحي وبموضوعية باردة يتناول الرائعة الفنية كما يتناول الملصقات الدعائية، والجسد النابض بالحياة كما يتناول الجثة الهامدة، وكأن كل الشأن في المنهج لا في ما يؤدّي اليه. ذلك ان النقد الصحيح، مهما استوحي من منهجيات العلوم، وأية درجة بلغ في طموحاته ومناحيه العلمية، يبقى في صميمه تفاعلاً حياً، لان الذوق والحدس أنفذ الى قلب الأثر الفني من ادوات المناهج مهما أُتقنتْ وترهّفت.

من أجل تصحيح النظرة الى التراث العربي يدعو د. أبو ديب الى «ضرورة إعادة تصوّر التاريخ الثقافي العربي من منظار داخلي: إلغاء مفهوم عصور الانحطاط الذي ابتكرته حساسية فنية وفكر سياسي سحقه الغرب بمعطياته... والتخلص من عقد النقص إزاء الغرب... ورفض صورة الحضارة العربية التي تقوم على معطيات التاريخ الرسمي للثقافة وعلى الكتابة البلاطية... فما سُميّ «عصور انحطاط» هي عصور تحرير الأدب من لصوقيته بالسلطة ودوراته في مدارها...».

انها دعوة جادة ومحقّة لكننا نتساءل كم عدد الآثار التي تتضمن هذه الصفات والعناصر الفنية التي تغيّر طابع عصور بأكملها وهو لم يذكر واحداً منها كمثل لما يدعو اليه؟ مع العلم ان «كتاب العظمة» الذي يدرسه وينطلق منه لهذه الدعوة لا ينتسب الى هذا العصر، بل الى القرن الرابع الهجري كما يقول. ويبدو ان الانفعال في بعض المواضع يطغى على النظرة التحليلية الهادئة، فتتكرر صفات تنسب الى النص بحماسة طاغية: المدهش، المذهل، الفاتن، الرائع، الساحر... وكان من الافضل، في رأينا، ان يُترك للقارئ مجال الاستنتاج والشعور بالإعجاب من خلال التحليل.

غير ان نتائج الانفعال والموقف السجاليّ تبدو اكثر ما تبدو في نسبة «كتاب العظمة» الى نوع أدبي معيّن يدعوه «الأدب العجائبي» او «الخوارقي» او «الغرائبي» باعتبار انها مترادفات او قريبة من الترادف، وهو يرى بالتالي ان العرب سبقوا الغرب الى هذا النوع الذي سمّوه Fantastique، والذي ينسب T.Todorav ظهوره الى القرن الثامن عشر الاوروبي. ينتقد د. أبو ديب هذا الرأي ويصفه مرة بأنه ادعاء عبثي (ص9) ومرة بأنها نسبة عشوائية ( ص18).

دلالات

إذا كانت تعابير «العجائبي» و«الغرائبي» و«الخوارقي» غير محددة تماماً في اللغة العربية فتستعمل كمترادفات وكمقابل للتعبير الاجنبي Fantastique، فليست الحال كذلك في الفكر النقديّ الغربي حيث التمييز دقيق بين: L’étrange, Le fantastique, Le merveilleux, La féerie، وإذا تشابهت دلالاتها في الاستعمال العاديّ فهي ليست كذلك في لغة النقد الادبي التي تجهد لتحديد الانواع تحديداً دقيقاً. فالآداب اليونانية والرومانية القديمة، والادب الاوروبي في العصور الوسطى زاخرة بالخوارق من آلهة وأنصاف آلهة وجنّ وعفاريت... ومع ذلك لم تعرف هذه العصور الأدب الـ fantastique بالمعنى الحصري، وكذلك الحال آثار Dante، Milton وشكسبير. ليس هذا موقف Todorov وحده بل معظم الباحثين في هذا المجال، نذكر منهم R.Caillois، إذ تلتقي آراؤهم حول شروط اساسية نوجز أهمها: ان الذي يحدّد الـ fantastique هو شعور التردد الذي يعانيه بطل القصة كما يعانيه القارئ أمام الأحداث بين التصديق والإنكار. فالتصديق التام والإنكار التام يخرجان النصّ من هذا النطاق؛ والذي يخلق موقف التردد هذا تماسك العالم الواقعي وخضوعه الصارم لقانون السببيّة، ثم تعرّضه المفاجئ للاهتزاز او الاختراق. لهذا يلاحظ ازدهاره في فترات الاكتشافات العلمية وتعاظم الثقة بقوانين العلم ومنجزاته كما كانت الحال في القرن الثامن عشر والتاسع عشر الاوروبي، وقد بلغ الذروة في هذه المرحلة التاريخية مع Gogol و Poe و Hoffmannو Maupassant وسواهم.

من شروطه الاساسية كذلك خلوّه من الاجواء الإلهية والمشاعر الدينية والأساطير وحياة القديسين وعجائبهم وتجنب الوعظ والدروس الأخلاقية كما نلاحظ ذلك في آثار أعلامه.

وإذا كانت كل فترة حضارية (او بدائية) تنعكس في لون أدبيّ يمثل روحها فقد تمثلت المرحلة التالية، وما تزال، في نوع آخر هيأته تطورات اخرى للعلم ونظرة مختلفة اليه هو «الخيال العلمي» Science-fiction.

«كتاب العظمة» اذاً، رغم ما يتضمنه من خوارق ومدهشات، او بسبب ذلك، لا ينطبق عليه وصف Fantastique.

كيف يصنّف اذاً وما هو النوع الذي ينتسب اليه؟

إنه يلامس انواعاً ولا ينتسب الى نوع محدد. ينمو على أصول الكتب الدينية يستوحيها كما يحلو للمخيلة ان تنطلق وتبدع، كما يغتذي مما تنسجه المخيّلة الشعبية حول بعض القصائد والتعاليم. له نظائر في بعض أناشيد «كتب الأموات» في الحضارات القديمة، و «رؤيا يوحنا» في الاستيحاءات المسيحية. انها رؤى أخرويّة او اسكاتولوجية.

وصف الجنّة

تتجلى لوحة الجنة كأبهى ما تكون بأوصاف تتخطى كذلك كل تصور في حشد هائل لكل ألوان الجمالات والمتَع: «إن الله تعالى خلق الجنة تحت العرش عن يمينه، وعرْضها كعرض السماوات والأرض من الذهب الأحمر والفضة البيضاء والدرّ والجوهر واللؤلؤ والزمرد الأخضر، وجعل لها ثمانية أبواب من النور ومسامير من الدرّ وستور الأبواب من السندس الأخضر ومفاتيحها من الياقوت الأحمر... وتسمّى كل جنة باسم معلوم: الأول جنة النعيم، الثاني دار السلام، الثالث دار الخلد، الرابع الفردوس، الخامس دار الجلال، السادس جنة عدن، السابع الدار العليا. طول كلّ دار مسيرة تسعمائة ألف ألف ألف ألف ألف سنة... والسنة ثمانون شهراً والشهر ثمانون يوماً واليوم ثمانون ساعة والسنة الواحدة الف سنة من سنينا هذه... في كل جنّة خلق الله تعالى ثمانمائة الف مدينة، في كل مدينة ألف ألف قصر من الذهب الأحمر والدرّ والجوهر والياقوت الأحمر والزمرد الأخضر... على كل سرير ألف ألف فراش من الحرير والسندس الأخضر... والفرش مفروشة بعضها فوق بعض، جالس على كلّ من تلك الفرش حورية من الحور العين عليها سبعون حلّة... يجري في كل بستان نهر من لبن ونهر من عسل ونهر من خمر لذّة للشاربين... فإذا دخل أهل الجنة الجنة افترقوا الى منازلهم فتستقبلهم الحور العين، كل إنسان تستقبله سبعون حوراء... فينظر وليّ الله الى ما أعدّ له من النعيم ويتعجب من الحور فيقول: لمن هؤلاء يا ربّ؟ فيقول الله تعالى: «يا عبدي ما ترى كلّهنّ أزواجك ونساؤك ولأجلك خلقتهنّ»... ويمضي الوصف على هذا المنوال الأسطوري الغرائبيّ في تجسيد المتع على اختلافها بأبهى الصور وأصعقها للحواس والمشاعر. ويخاطب الله عباده: «يا عبادي لا تشربوا من الحور العين فها أنا أسقيكم بيدي فاشكروا نعمتي وانظروا الى عظمتي».