ما دمنا جميعاً دعاة ديموقراطية وننشد تحقيقها في بلادنا واستتباب نظامها: هل يكفي حصول انتخابات تشريعية أو بلدية دليلاً لارتفاع منسوب الممارسات الديموقراطية؟ وهل يكفي تكاثر وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمكتوبة للتدليل على حصانة حرية الرأي التي هي شرط لازم من شروط تحقق الديموقراطية؟

Ad

يلاحظ بعض المتابعين من الكتاب والصحافيين العرب، أن البلاد العربية شهدت نوعاً من التطور الديموقراطي في الفترة الأخيرة. أي في الزمن الذي أعقب الحملة الأميركية على أفغانستان والعراق في ما بعد. والتطور الديموقراطي يتمثل بالنسبة لهؤلاء بتنظيم انتخابات تشريعية ومحلية في أكثر من بلد عربي. وتالياً اقبال المواطنين على الإدلاء بآرائهم في صناديق الاقتراع. فضلاً عن هذا المعطى الأول والواضح، ثمة نهضة إعلامية تشهد البلاد العربية بعض فصولها خصوصاً في دول الخليج العربي.

إلى هذا الحد، لا يسعنا ان نعترض على ما يقال ويشاع في هذا الصدد. ويضيف هؤلاء الكتاب أن هذا التطور الديموقراطي، او هذه الجرعة من الديموقراطية، إنما تمت بسبب أو بتأثير أميركي، مباشر أو غير مباشر. مما يعني أن الاحتلال الأميركي للعراق والتدخل في أكثر من بلد من البلدان العربية ليس شراً كله حسب زعم بعضهم. والحق أن أياً كان لا يستطيع القول إن التدخل الأميركي في أي مكان من العالم، وفي العالم العربي عموماً هو في طبيعته شر مطلق. إذ لم يعد غير ورثة اليساريين الماركسيين من حقبة الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، من إسلاميين وقوميين وأدعياء يسار، يظنون أنه من الواجب مقاتلة الإمبريالية الأميركية أينما وجدت. هذا شعار عفى عليه الزمن، وأثبت مراراً عدم جدواه، وأحياناً أدى إلى نتائج كارثية. لكن إقامة مرصد للممارسات الديموقراطية في العالم العربي بهدف التأكيد أن سياسة الولايات المتحدة الأميركية في المنطقة تحمل في طياتها خيراً عميماً لم يتسنَّ للعرب الغافلين فهمه، يكاد يكون تدبيراً للحجج ولا أعجب منه.

على أي حال، يجدر بنا مرة أخرى أن نسأل السؤال الأكثر بداهة في هذا المجال، ما دمنا جميعاً دعاة ديموقراطية وننشد تحقيقها في بلادنا واستتباب نظامها: هل يكفي حصول انتخابات تشريعية أو بلدية دليلاً لارتفاع منسوب الممارسات الديموقراطية؟ وهل يكفي تكاثر وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمكتوبة للتدليل على حصانة حرية الرأي التي هي شرط لازم من شروط تحقق الديموقراطية؟ الأرجح أن الإجابة عن هذين السؤالين بالنسبة للكثيرين، ولا استثني الكتاب والمثقفين، يكاد يكون إيجابياً بداهة. لكن ما لا يتنبه إليه صناع الرأي العام في بلادنا العربية، وهذه إحدى مهام الصحافة الأبرز، أن صناعة الرأي العام تقع في مكان آخر غير صفحات الصحف وزوايا الرأي ومانشيتات الصفحات الأولى، بل إن الأستاذ أحمد سعود المطرود لاحظ ببداهة لا يقربها الشك في مقالته المنشورة في عدد الثاني من مايو من «الجريدة» أن تأثير الكتاب في الاتجاهات العامة للناخبين الكويتيين، يكاد يكون معدوماً في الدائرتين الرابعة والخامسة، بسبب غلبة التضامن القبلي والعشائري على ناخبيها، ويكاد يكون هذا التأثير معدوماً أيضاً في الدائرة الأولى بسبب حدة التأجيج الطائفي التي تشهدها هذه الدائرة. يبقى أن تأثير صناع الرأي العام في الكويت محصور بحدود معينة في الدائرتين الثانية والثالثة، بسبب تمتع الناخبين في هاتين الدائرتين ببعض من الحس الليبرالي. والحال، نحن أمام صحافة وكتاب رأي لا تؤثر آراؤهم في ثلاث دوائر من الدوائر الخمس. مما يعني أن مواطني الدائرتين الثانية والثالثة وناخبيهما يشهدون نوعاً من ازدحام الآراء قد يشتت توجهاتهم أيضاً. هذه عينة بسيطة مما تعانيه الصحافة العربية في كل مكان من العالم العربي. ذلك أن الكتاب يكتبون أحيانأً للرمال العالية، أو للأشجار الكبيرة أو الريح. خصوصاً حين نتذكر أن الحرب الأهلية العراقية التي تأكل أخضر العراق ويابسه هي حرب تم التصويت على الدخول فيها في صناديق الاقتراع. وأن لبنان الذي يعيش منذ أكثر من أربعين عاماًً فصول حرب أهلية دامية أحيانأً وباردة في أحيان أخرى، هو أكثر بلاد العرب نشاطاًَ انتخابياً وأعرقهم حرية صحافة.

لا تهدف هذه الملاحظات إلى ذم الانتخابات وتعدد المنابر الإعلامية. إنما تريد التذكير بأن الأساس الناقص الذي يمنع الديموقراطية العربية من التطور يتعلق بندرة المواطنين في كل بلاد العرب. فالفرد العربي يولد ابن عشيرة أو عائلة أو طائفة، ولا يصبح مواطناً إلا باختبار المحن. والفرد العربي يتعامل مع دولته بوصفها رب عمل وليس بوصفها الحصن الذي يحميه من الأخطار الخارجية والداخلية على حد سواء. والمسؤوليات في هذا كله لا تقع على عواتق الحكام وكواهلهم فقط.

* كاتب لبناني