يستقطب منزل الشاعر الياس أبو شبكة في زوق مكايل (شمال بيروت) مثقفين، شعراء وطلاباً، في بقعة وسطى من البلدة التي توسّع العمران فيها. يلفت المنزل راهناً ببنائه الهندسيّ المحافظ على النمط المعماري القديم، إذ عمل المجلس البلدي منذ سنوات على ترميمه وتجهيزه ليصبح أهلاً لتحويله منتدى فكريّاً ومسرحاً ومعرضاً ممّا توافر جمعه من مقتنيات الشاعر ومخطوطاته ومؤلفاته.يرتبط المنزل وما يعنيه في الذاكرة بأجمل ما كتب أبو شبكة في رحابه من قصائد تطاول الرومنسيّة بعناصرها الوجدانيّة المتشعبّة: الحبّ والألم والذوبان في غضب الطبيعة، محطات شقت طريقها من غرف المنزل ومن خلف النوافذ المشرفة على جنون العواصف وهطل الأمطار الى وجدان المتلهّفين وعشاق الشعر.تلك الكتابات المدوّنة على جدار غرفته الشتويّة، قرأتها يوم زرت المكان قبل عشر سنوات. والمنزل الفسيح الذي تحوّل مشروع متحف للمستقبل القريب يختلف عمّا كان عليه في الأمس القريب أو البعيد. أمّا أهميّته ففي الحفاظ عليه وتأهيله، أسوة بعدد قليل من منازل كبار من أدبائنا وشعرائنا وفنّانينا أمثال مارون عبذود وأمين الريحاني وعبدالله غانم، ليصبح منتجعاً فكريّاً من أجل الحفاظ على ثروة مبدعينا التي تقاس بفرادتها وخصوصيّاتها، حيث الإبداع وليد المكان وما يجسّد الأخير من وقائع مستمدّة من روح ذلك المكان.يعني منزل الشاعر، في أبلغ حدوده، رمزيّة التواصل مع التفاصيل التي رافقت الشاعر في مسيرته، وما توحي في الذاكرة من مواكبة لنتاجه وأحلامه المدوّنة قصائد وكتابات.من المكان، أطلق الشاعر أسراب جنونه الشعريّ، راسماً قصائده بما يضارع لوحات تشكيليّة، في مطلع القرن الفائت، مخاطباً من على شرفته الريح والهواء وكانون والحصّادين والسهول وصدى النواقيس. على ضوء شمعة فقدت بريقها عند بزوغ الفجر يكتب ألمه:«إجرح القلب واسقِ شعرك منهفدم القلب خمرة الأقلام»تلك الرومنسيّة الذائبة، ربّما تنهل وقعها، ليس من ألم الشاعر فحسب، لكن من روح المكان وغرفه الباسقة المتناثرة وذلك البهو الفسيح وقد رصّعت أرضه بالرخام، وسقف زيّن بالرسوم ونوافذ مشرّعة للضوء وللعتمة الحالكة في أمسيات الشتاء.لعلّ القصيدة كتبت نفسها، أو لعلّ الشاعر في رهبة المساحة ترجم الحالة واقعاً مليئاً بالرؤى، في محاكاة شديدة المطابقة وحالة شعراء الرومنسيّة الفرنسييّن.على جدار غرفته الشتويّة المطلة على البحر كتب بالقلم الرصاص شعراً. كانت اطلالة غرفته على الحديقة مسرحاً لمحاكاة عناصر الطبيعة. يطوي الغرف ذهاباً وإياباً مختطفاً هنيهات الحركة الخارجية. يكتبها على الدار ربّما ينثرة قلم. تصبح الكتابة لحناً تتناقله أجيالنا:أمطري واعصفيوارقصي واعزفيواخلقي الجمالوانسجي الخيالأو هي روح غلوائه تطوف أبداً في المكان معيدة لملمة نثر ألمه، حبّه وغيابه:عفواً هذه أدمعيتشفع يا غلواء بي فاشفعيأو هي أيضاً حديقته المزروعة آنذاك ليموناً، حنبلاساً، توتاً وزيتوناً، وهي راهناً مجتزأة بفعل اقتطاع قسم منها.أو الشرفة التي كان يلقي من على رخامها فجراً قصية كتبها على نور شمعة محتضرة. في ذلك المنزل، أجمل ما كتب أبو شبكة ناسجاً القصيدة المنسلّة من كلاسيكيتها امتداداً حديثاً ينهل من واقعه القريب والحميم وخلاصة الانفعالات العاطفية، بايقاعات موسيقيّة متآلفة.حديقة الشعرفي زمن الطفولة سكنت في عمارة قديمة، تشرف على منزل الشاعر. كنت أتأمّل تلك الحارة المنفردة في بقعتها، قبل غزو الإسمنت، مطلة على حديقة غزتها أشجار الليمون واللوز والحنبلاس والزيتون. المسافة بين مسكني ومنزل الشاعر لا تتعدّى عشرات الأمتار. من الممرّ الضيّق المتشبّع من جانبيه رطوبة الجدران والأعشاب البليلة والحميّضة، ومن الجلالي العابقة بصمغ اشجار اللوز كانت حارة الشاعر مسكناً لشقيقته فرجيني، بشبابيكها ـ الأباجور وبوّابتها الموصدة أبداً وقرميدها الذي فقد جزءاً من جهته الشرقيّة. كان الخوف يتفاقم لدينا، صغاراً، إثر دخولنا الممرّ الضيق. بناء سقفه مرتفع، أرضه مطعّمة بالرخام. ثمّة بلاط أسود لا تزال رائحته عالقة في أنوفنا حتّى اليوم وكتابات قرأناها هنا وهنالك، من مدادها وأقلام الرصاص فوح يد مرهفة، لشاعر ترك بصمات من ذهب قبل أن يولّي في ريعان شبابه.كانت فرجيني بقامتها الهيفاء وطلتها البهيّة وشعرها المسترسل سنابل من ذهب، حتى خصرها، تسمح لنا بالدخول مع الحرص الشديد، ساعة تدفعها الحاجة، لنشتري لها خبزاً. لازمت المكان لسنوات، وحيدة بعد غياب الشاعر. بقيت في المكان، تكاد لا تغادر الاّ نادراً. كم كانت الفرحة تغمرنا حين ندخل مكتب الشاعر، الموصد النوافذ، المغمور بالظلام والفائح منه عفن الورق والجدران. كنت أتأمّل رفوف الكتب المتكدّسة، أقرأ في مداخل الاهداءات أسماء أدباء وشعراء مع تواقيعهم. مع الزمن تبعثرت المكتبة وضاعت معظم الإهداءات تماماً كما الثروة الأدبية وبات من العسير جمع الثروة تلك المتبدّدة بفعل الإهمال والعبث في المكان. ثمّة جزء من المحتويات احتفظت به غلواء زوجته «أولغا ساروفيم» كعصاه ونظّارتيه وصوره...في الجهة المقابلة للبوّابة الرئيسيّة نافذة واسعة بقناطر من زجاج، مطلّة على شرفة ومنها على الحديقة التي تغمر المنزل بأشجار الصنوبر واللوز. فسحة مدّ النظر صوب البحر، كان أبو شبكة يجلس في الساعات الأولى للفجر ملقياً قصائده التي ضمّنها عشقه وألمه، بصوت مرتفع على ايقاع صياح الديوك، فيتسلّق «المكاريون» الغادون الى حقولهم الأشجار مسحورين بطيف الشاعر وصوته وهم في مقلب آخر من عالمه المتغمّس مرارة وحرماناً.حارة الذكرياتهذه الحارة العابقة بفوح الذكريات والمكللة بالتيجان، الذائبة في ضوع الشبابيك الخشب، حارة ببوابة عتيقة دهريّة تواكب اليوم، بعد ترميمها أسوة بالنوافذ والواجهات، قوافل السيارات عند عتبتها وتقف شاهداً يتيماً لزمن قفل، بين أبنية حديثة. لجهتها الخلفيّة يتكئ تمثال الشاعر عند مدخل الحديقة يشهد يوميّاً حركة متواصلة، منتظراً بشغف، بعد أن انتهت أعمال الترميم والتجميل أن يصبح المكان متحفاً دائماً يضمّ في رحابه ما أمكن جمعه، بفضل الجهد العازم الذي بذله رئيس البلدّية المحامي نهاد نوفل، منذ زمن، وإليه يعود الفضل في انقاذ المنزل ـ المتحف من براثن البيع والهدم، وهو الذي أشار في غير مكان الى أهميّته «من حيث أنه كبير يتالف من طابقين: عقد سفليّ، نرمي تحويله مسرحاً بلديّاً صغيراً، مع إلغاء بعض التقطيعات الداخليّة. والجزء العلويّ منه يصبح متحفاً. إلا أننا لا نملك الكثير من تراث الشاعر، والممكن جمعه، يمكن وضعه في غرفة واحدة. أمّا بقيّة المساحة فنفكّر في أن نحوّلها متحفاً مشابهاً لمتحف سرسق الذي تشرف عليه بلديّة بيروت وتديره لجنة وطنيّة من كبار رجال الفكر والفنّ، فيصبح مركزاً لنشاطات ثقافيّة وفنيّة لبنانيّة ومتحفاً للتراث اللبناني والندوات والمعارض ونادياً مقفلاً للأدباء والفنّانين، يكون لهم مجال اختيار الإدارة والتمثيل والتحريك وبرمجة العمل» وكانت زوجة الشاعر أشارت في لقاء، قبل أشهر من رحيلها الى أنّ قسماً كبيراً من متروكات الشاعر فقد، وأنّ سريره كان من النحاس الأصفر القديم. أمّا هي فتحتفظ بعصا الشاعر من قصب البامبو وبنظارتيه ومخطوطاته وكتبه وطاولته والقلم والقدّاحة... نافية أن يكون الشاعر أضاف في زمنه شيئاً الى بناء المنزل. وعن رسائل الشاعر اليها، ذكرت أنّها نادمة إذ أتلفتها في لحظة غضب، وكان الشاعر ضمّنها عشقه لها و«بسببها أحببته، تماماً كما أحببت بكاءه وعذابه».
توابل - ثقافات
الياس أبو شبكة يحضر في جدران تنبض رومنسيةً
17-12-2007