يقول الباحث هاري ليغين: «إن الشيء الذي كان يقلق الانكليز بجلاء هو الحياة مع الأم. لم يعودوا حتى يقاومونها كما كان يفعل لورانس في رواية «ابناء وعشاق». وفي حين أن الابوة هي تأثير ثقافي يجب أن يؤدي بشكل رئيس الى الاستقلال من خلال التربية، تعتبر الأمومة الرمز الواضح لاعتماد الطفل على الابوين باعتبار انها تجسد ارتباطهما البيولوجي».

Ad

لكن تلك قصة اخرى وذات ارتباط وثيق ومعقدة على نحو مضلل، قصة مستفيضة أطلق عليها الروائي مارسيل بروست في ما بعد صفة «تدنيس الام». وهو الذي تدعي اكثر مقالاته تمرداً، كان نفسه أكثر الابناء ولاء.

ومثل هذا الولاء الذي نقله من اسرته الى كتاباته، يبقى المطلق الوحيد في عالمه، عالم المظاهر المتبدلة والقيم الفاسدة.

كانت للكاتب التشيكي فرانز كافكا صورة اخرى عن الأم. ترى كيف كانت والدته ؟ يحاول الكاتب المكسيكي سياليتيل التريستي، الاجابة عن هذا السؤال ضمن روايته التي تحمل عنوان «الأذى» والتي كتبها من نسج خياله.

يقول المؤلف: «لا أحاول تبيان أي شيء بعينه في هذه الرواية بقدر ما أحاول أن أحكي قصة تطرح الاشكالية التالية: كيف يمكن ان تتولد العبقرية من علاقة حميمة مهزوزة ومستعصية تقوم على الكراهية مثلما كانت عليه علاقة فرانز كافكا بأمه؟»

ويشير ريفيرتي الى ان «الأذى» التي تتوخى تسليط الاضواء على جوانب مجهولة من حياة والدة صاحب «المسخ» يستخلص من قراءتها ثلاثة عناصر اساسية يمكن ان توسم بها والدة هذا العبقري الذي لم تشمله بحبها وحرمته من عطفها وحنانها وعاملته بجفاء هي: تأنيب الضمير، الندم، والانانية. وهذه المشاعر الغريبة هي البوتقة التي يتحرك في داخلها الصراع الدائر في هذه الرواية.

خلافاً لباقي الأمهات لا تعرف ام كافكا الحب، ولا تعرف طريقا اليه فكانت هذه القطيعة أو هذا البتر أو الشرخ الحاصل في جدار علاقتها بولدها غير العادي كافكا!

استبداد بورخيس

كانت والدة بورخيس الرفيقة الدائمة له وصاحبة الحضور القوي في حياته، حتى قبل ان يفقد بصره تماما، املى عليها نصوصه وقرأت له. بدأت العمل بوصفها سكرتيرته الخاصة وعندما عجز عن الكتابة والقراءة عجزا تاما، اعتمد عليها كليا حتى وفاتها وهي في التسعين.

تتذكر خادمة بورخيس وكان يسميها فاني، أن والدته كانت امرأة متسلطة. اقترحت عليه العام 1967، الاقتران بإلسا استيتي خوفاً من ان يظل وحيداً بعد وفاتها.

كان بورخيس حينها في الثامنة والستين من عمره، ولم يسبق له ان عاشر امرأة، لذا سرعان ما آل زواجه الى الطلاق بعد مرور سنتين فحسب. تؤكد خادمته ان علاقته بزوجته الاخيرة، ماريا كودما، لم تكن تختلف عن سابقتها، وانما كانت تعامله بقسوة شديدة، متأففة من عماه ومن هشاشة شيخوخته.

حزن بورخيس على وفاة والدته، الى درجة انه لم يصدق خادمته عندما ايقظته من نومه في الرابعة والنصف صباحاً وأخبرته بذلك. كان ذلك اليوم يوم معاناة حقيقية بالنسبة اليه، بقي يمشي في الغرفة التي حوت جثة أمه ذهاباً وإياباً وهو ينتحب مثل طفل ويصرخ قائلا «أمي، ها قد عدت اليك، انني هنا».

اصرّ على اصطحاب سرير أمه الى كل شقة انتقل اليها وكان حريصا على ان تغير خادمته ملاءات السرير يوميا، من دون ان يستنكف عن التجسس عليها وهي تقوم بذلك.

في سنواته الاخيرة، عبر عن فخره بوالدته وعن احترامه لذاكرة اجداده، في موقف يناقض ما قاله في مقابلة اجريت معه عام 1967: «ان ال اثيفيدو (عائلة امه) جهلة على نحو لا يصدق». اضاف وهو يتحدث عن والديه: «كان لابي تأثير عليها وليس العكس. انتمت امي الى عائلة ارجنتينية مرموقة، في حين كان ابي رجلا متحررا ومثقفا، كانت والدته انكليزية بروتستانتية وامتلك مكتبة قيمة».

كاترين كامو

يقول مورسو بطل رواية «الغريب» للكاتب الفرنسي البير كامو «توفيت والدتي اليوم أو ربما بالأمس، لا أدري، تلقيت برقية من المنزل: ماتت أمنا. المأتم غداً. بإخلاص. هذا لا يعني شيئاً». قدم البير كامو في الرواية شخصية مُدانة واقعة بين موتين، موت الوالدة وموته الشخصي ووصف علاقاته الفاترة بمن حوله التي غاب عنها التعبير عن المشاعر.

كانت كاترين هيلين سينتيس والدة كامو امرأة أميّة متوارية. ذكرها أكثر من مرة في كتاباته، خصوصاً في سيرته «الرجل الأول» المنشورة بعد وفاته والتي يتحدث فيها عن أمّ حُرمت من الأمور كلها إلاّ من قدرتها على الحب. فقد الكاتب والده لوسيان اوغوست قبل بلوغه السنة اثر اصابته في معركة مارن العسكرية.

بعد وفاة الوالد، انتقلت الأم مع العائلة المؤلفة من ولدين إلى ضواحي بيلكور الجزائرية، وشاركت جدة الأولاد في الشقة. وفي مقابل حديث الجدة المستفيض، وجد الولدان أمهما كتومة اكثر مما يجب في منزل غابت عنه الكهرباء والكتب والصحف حتى المجلات. يتذكر كامو انه في المنزل الأبوي «لم تكن للأشياء أسماء».

عانت الأم من الصمم الجزئي نتيجة جلطة أتلفت قدرتها على النطق، لكنها استطاعت قراءة الشفاه لتتواصل مع ابنها الذي أحبها كثيراً: «في اللحظة التي لم تكن عينا أمي «تستريحان» علي، لم استطع ان انظر اليها من دون ان تحبل عيناي بالدموع».

كانت حياة الام، حياة صمت وعمل، يتذكرها متكئة على عتبة النافذة تراقب الشارع عبر أزهار الحوض، وتخرج كرسياً إلى الرصيف في فصلي الربيع والصيف لتسترق السمع إلى أحاديث الجيران. لم تضحك او تبكي أمام افراد عائلتها بل رسمت على شفتيها ابتسامة ابدية. رأى كامو في صمت والدته «علامة كرامة وشرف» مع أنها لم تتدفق حناناً، لكن جهود صاحبة اليدين الحمراوين الحاملتين آثار الروماتيزم «البطولية» لإبقاء عائلتها مكتفية شكّلت مصدر إعجاب الكاتب.

مدام بروست

كانت علاقة الروائي مارسيل بروست بوالدته استثنائية شأنها شأن كل ما يتعلق بهذا الروائي العظيم. وتعتبر الرحلات التي يقوم بها في «البحث عن الزمن الضائع» من بين الأمور الأكثر بروزاً في الرواية. فعندما كان في الخامسة والعشرين، قام بزيارة قصيرة إلى فونتينبلو وكان يكتب إلى والدته مرتين يومياً ويتصل بها مرات عدة. بعد وفاتها، كتب إلى روبير دو مونتسكيو قائلاً: «الآن لم يعد لحياتي هدف أو معنى وانتفى منها الحب والعزاء».

تصوّر الروائية بلوش - دانو في روايتها «مدام بروست» (والدة بروست) شخصية امرأة حساسة، مثقفة وحادة أحياناً وهبت مطالب كثيرة ليس لابنها البكر فحسب بل لشقيقه الأصغر روبير ووالدهما أدريان أيضاً. كذلك تظهر طقوس الطبقة البرجوازية الباريسية التي مارستها مدام بروست كونها زوجة أستاذ بارز في الطب بالإضافة إلى دورها المهم في عالم الأدب.

وعلى الرغم من خلافاتها الزوجية، وجدت مدام بروست العزاء في ولديها. وتتحدث الرواية كثيراً عن علاقتها بمارسيل الذي رعته في طفولته وفي عشريناته وثلاثيناته.

يمكن استنتاج موقفها المذعن لحياته الجنسية من خلال وصفه لصديقة جديدة تصرفت بـ{حماسة مفرطة» معه يقول: «أقصد ذلك بنية حسنة لذا لا تطلقي العنان لمخيلتك وتسيئي الظن بربك!».

بودلير الحزن الرعوي

مات والد بودلير عندما كان صغيرا، وكان متعلقا بوالدته وعندما تزوجت من الجنرال اوبيك، شعر بودلير بحزن عميق لم يشفَ منه طوال حياته، اذ اعتبر انهم سرقوا منه امه، وانها خانته، ولم يعد يستطيع التخيل انها مع رجل آخر.

يقول بعض المحللين ان بودلير كان يعاني من «عقدة اوديب»، فكر في الانتحار اكثر من مرة، وحاول في إحداها ضرب صدره بالسيف إلا أنه فشل.

يقول بودلير لاحدهم معبراً عن يأس داخلي وتقزز من الحياة: «سأقتل نفسي غير آسف على الحياة. سأنتحر لأنني لم اعد قادرا على الحياة. تعبت من النوم والاستيقاظ كل يوم، يا لهذه العادة الرتيبة والمملة. اريد ان انام الى الابد».

ويقول بعض النقاد ان كره بودلير لزوج والدته ليس كما تعتقد المدرسة الفرويدية ناجماً عن عقدة أوديب وانما عن البارانويا. فارتباط بودلير بأمه لم يكن حبا بالمعنى الفرويدي، وانما كونها المرآة التي يرى فيها عظمته. لم تكن في نظره أماً فحسب انما هي «مجمع كهنة» تبارك فلسفة بودلير. بتقاعد الام عن الوظائف المهمة في حياته وتحولها الى الطرف النقيض له بدأ الاضطهاد يسدل شعوره عليه.

ازمة الفلاسفة

لم تكن والدة الفيلسوف شوبنهاور تخفي مشاعرها الحقيقية نحو زوجها، كتبت في مذكراتها أنها لم تحبه ابداً، بل وافقت على الزواج منه لانه كان ثرياً، واعجبها ان تعيش معه حياة مرفهة بعيدة عن المشاغل اليومية.

كان شوبنهاور الشاهد على آلام والده الذي احبه، وشن حرباً على المرأة، ففي كتابه «بحث حول النساء»، الذي بدا محاولة للثأر من والدته، اعتبر ان المرأة روح لعوب، لا ترى الا ما هو امام عينيها، وترتبط بالحاضر، وتتخذ موقف القبول بالواقع، لكنها تفضل التفاهات على الامور المهمة في الحياة. الاهتمام الذي تبديه المرأة بالأمور في الظاهر ليس سوى تصنع رغبة منها في الغنج وتقليد إمرأة اخرى. ويعتبر شوبنهاور ان تصرف والدته نحو والده» ظلم فادح، والظلم من صلب طبيعة النساء». اما نيتشه صاحب مبدأ «البقاء للأصلح»، فكان منطويا على نفسه منعزلاً عن الناس والمجتمع. كان يحتقر المرأة ويصفها بأنها غير قادرة على الحفاظ على الود ولا هدف من وجودها سوى الترفيه عن الرجل الذي يقع في حبها...

رواية الأم

منذ صدورها للمرة الأولى، وصفت رواية «الأم» لمكسيم غوركي بأنها الكتاب الذي يعبر عن الثورة. مع هذا، لم يرَ فيها النقاد الذين تابعوها منذ البداية، سوى شهادة على الحياة التي يعيشها الناس البسطاء او البروليتاريا الرثة. شخصان اثنان على الأقل من «نجوم» القرن العشرين، أعلنا افتتانهما بالرواية، الاول هو السينمائي بودوفكين، الذي حول الرواية فيلما، والثاني الشاعر والمسرحي الألماني برتولت بريخت الذي اقتبس من رواية غوركي مسرحية تندرج في اطار الادب «الثوري».

ومع ان الرواية كانت من النصوص الممهدة للبولشفية، وقف غوركي موقفا سلبيا تجاه هذه الثورة، اذ رأى انها شعبوية وديماغوجية اكثر من اللازم. يقول تروتسكي ان غوركي استقبل الثورة بقلق، وفي السنوات الاولى قام بمهمة الوسيط بين السلطة السوفياتية والانتليجنسيا القديمة كشفيع لها عند الثورة، وخاف لينين الذي كان يحب غوركي جدا، من ان يصبح هذا الأخير ضحية علاقاته وضعفه، وفي نهاية المطاف اختار غوركي الرحيل الطوعي الى الخارج عام 1921، وهناك تمكّن من إكمال الجزء الثالث من سيرته الذاتية («طفولتي»، «بين الناس»، «جامعاتي»)، وكذلك كتابة عملين روائيين، «شؤون أرتمانوف» و{حياة كيم زامقين» ولم يعد الى روسيا الا عام 1928 بناء على طلب شخصي من ستالين الذي أحاطه بعنايته، وأوصله عام 1933 الى منصب رئيس اتحاد الكتاب.