لم يبق للبنانيين غير دوام اللهجة الودودة يستثمرون فيها في مستقبلهم القريب، وهذه اللهجة الودودة التي سادت بين فريقي اجتماعات باريس ليست قليلة التأثير في الحراك السياسي اللبناني الداخلي، ذلك أن نزع فتيل الصراع الحاد بين هذين الفريقين من الشؤون التي يستطيع اللبنانيون أن يقرروا فيها بصرف النظر عن حدة التدخلات الخارجية. أعلنت مصادر وثيقة الصلة بتيار المستقبل الذي يتزعمه الشيخ سعد الحريري وأخرى وثيقة الصلة بالتيار الوطني الحر الذي يترأسه الجنرال ميشال عون أن الطرفين اتفقا، على هامش لقاءات باريس بينهما، أن يتكتّما على تفاصيل ما دار من محادثات، وأن يتجنبا التسريبات التي قد تضر بطبيعة الحوار نفسه. هذا في الشكل، أما في المضمون فواقع الأمر أن اللقاءات لم تنتج فعلياً ما يمكن لأي طرف من الطرفين تسريبه، لأن الطرفين اللذين اجتمعا في باريس خرجا من الاجتماعات من دون نتائج محددة، فالجنرال ميشال عون بعدما ركض طويلاً في ركاب تحالف 8 آذار وجد نفسه أبعد مرشحي الرئاسة الأولى عنها، مما جعل المسافة بين الجنرال والمنصب الأول في الجمهورية اللبنانية أطول من أن يقطعها ببضعة لقاءات في بضعة أيام حامية تفصل اللبنانيين جميعاً عن استحقاق داهم. ومن جهة ثانية لم يطمح الشيخ سعد الحريري إلى تحوّل حاسم في مواقف عون تجعله واحداً من مرشحي 14 آذار إلى المنصب، والأرجح أن جل ما تحقق في هذه الاجتماعات يتصل اتصالاً مباشراً بتبدل جوهري في لهجة التخاطب السياسي بين الطرفين، وسيادة أدب المجاملات السياسية بعدما كان التراشق سيد الموقف بينهما. اللبنانيون كانوا ينتظرون من هذه الاجتماعات حصول توافق كامل على اسم الرئيس والبرنامج السياسي للمرحلة المقبلة، إذ إن مثل هذا التوافق كان متعذراً ولم يجد الطرفان ما يبشران اللبنانيين به على نحو عملي وواضح، وجل ما أعلناه أن وداً متبادلاً في طريقه إلى التحقق في الخطب والتصريحات.لا يجدر بأحد أن يستهين بهذا الإنجاز، فسيادة المجاملات السياسية بين الأطراف اللبنانيين ليس أمراً بسيطاً في مثل هذه الظروف التي يمر بها لبنان، خصوصاً أن الزمن الذي يفصل اللبنانيين عن انفجار أزمة الاستحقاق الرئاسي بات يعد على أصابع اليدين، ولم يعد ثمة ما يعصم لبنان من انفجار سياسي محتوم، قد يتحول إلى انفجارات أمنية متنقلة، فأن تسود لغة التعقل بين طرفين كانا حتى الأسبوع الماضي يتقاذفان أبشع النعوت في حق بعضهما، في لحظة لبنانية –عربية– دولية كالحة، أمر يجدر بنا تسجيله في خانة الإيجابيات الأكيدة. والحق، أن ما يدفع الأطراف اللبنانية جميعاً إلى تغليب لغة المجاملات السياسية وآداب الحوار، أكثر من أن يحصى، لبنانياً على الأقل، بوصف هذا التغليب مقدمة ضرورية ولا بد منها لإبقاء الخلاف السياسي في التوجهات والتحالفات تحت سقف المصلحة العليا للبلد، والتي يمكن اختصارها اليوم في حصيلة متواضعة: كيف يجنب القادة اللبنانيون اليوم أنفسهم الدخول في أتون حرب أهلية لا يملكون القدرة على إنهائها على أي وجه من الوجوه؟ من دون أن نغفل، ولا يحق لنا أن نغفل، أن أسباب الانفجار السياسي أرجح كثيراً من أسباب التوافق، وأن المساحة المشتركة بين اللبنانيين باتت رقيقة الحاشية إلى حد لم يعد ثمة من يمكنه البناء عليها والاستثمار فيها في الداهم من الأيام والأسابيع. والحال، أنه لم يبق للبنانيين غير دوام اللهجة الودودة يستثمرون فيها في مستقبلهم القريب، وهذه اللهجة الودودة التي سادت بين فريقي اجتماعات باريس ليست قليلة التأثير على الحراك السياسي اللبناني الداخلي، ذلك أن نزع فتيل الصراع الحاد بين هذين الفريقين من الشؤون التي يستطيع اللبنانيون أن يقرروا فيها بصرف النظر عن حدة التدخلات الخارجية، وحين تسود مثل هذه اللغة بين هذين الطرفين، فإن الطرف الثالث الذي يمثله حزب الله على رأس الطائفة الشيعية سيجد نفسه مدعواً بحدة إلى الدخول في المسلك نفسه، وهو صاحب مصلحة في ألا يتحول الصراع السياسي في لبنان إلى صراع مسلح بين طوائفه الكبرى. لقد بتّ الاجتماع السباعي -الذي عقد في اسطنبول وخصص لمناقشة الموقف من الاستحقاق الرئاسي على هامش مؤتمر دول الجوار العراقي- استحالة التوافق اللبناني–اللبناني، واستقرت الخطة السورية في لبنان على حصاد دولي–عربي يقترب من الصفر، لكن ذلك لا يمنع سورية من الاستمرار في استثمار قواها ونفوذها على الساحة اللبنانية، ولم يعد أمام القوى اللبنانية من مجال متاح إلا محاولة تبريد الرؤوس الحامية ونزع صواعق الألغام الجاهزة والمعدة للتفجير، لكن نزع صواعق الألغام لا يعني إزالتها ونزعها، فلم تعد هذه المهمّة في متناول اللبنانيين أنفسهم، ولم يفعل اجتماع اسطنبول إلا تجديد المنازلة بين مشروعين خارجيين على حساب لبنان واللبنانيين.* كاتب لبناني
مقالات
اجتماعات باريس: تبريد الرؤوس الحامية
07-11-2007