هل سقط الإسلام السياسي علينا من كوكب آخر، أم غزانا واخترقنا من عالم مجهول؟ وفجأة أفقنا فإذا نحن في حضن الإسلام السياسي، الذي أخذ يهددنا ويفرض علينا أيديولوجيته وواقعه وإرهابه، بحيث أن دولة كبرى كمصر استسلمت أخيراً للواقع الذي فرضته «حماس» في غزة بقوة السلاح، ودعت «فتح» إلى مصالحة «حماس»، وتقبيل رأسها، وطلب العفو والمغفرة منها. وكانت مصر قبل أيام قد شربت (حليب السباع) وسحبت سفيرها من غزة حاضرة «حماس»، وأرسلته إلى رام الله عاصمة «فتح». وقالت إن «حماس» جماعة انقلابية تجب محاربتها. ولكن بعد أن (راحت السكرة وجاءت الفكرة)، اكتشفت الدولة المصرية أنها واقعة بين سندان الإخوان المسلمين في الداخل ومطرقة «حماس» التي أصبحت على حدودها، مما يهدد وجودها تهديداً مباشراً وجدياً. فما كان من مصر إلا أن تقدم الوداد وتقوم بالتودد لـ «حماس» وللشارع الإسلامي السياسي، حتى لا تقع الفأس بالرأس. وهذا هو سرُّ تغير السياسة المصرية 180 درجة، الذي عنه يتساءلون.

Ad

 

الدين والسياسة بين الفصل والوصل

كان اليونانيون أول شعوب الأرض التي فصلت السياسة عن الغيب. وجعلوا مصدر الجماعة البشرية المُعيّنة هي السلطة التشريعية الحقيقية، وليست السلطة الدينية السياسية المتعالية والمتمثلة بـ (ظل الله على الأرض، سلطان الله، خليفة الله). وبذا فقد كان اليونانيون متقدمين جداً في السياسة وفنونها على الدولة العربية الكلاسيكية التي ربطت بين السياسة والغيب، واعتمدت على التشريع الإلهي واعتبرته مصدر السلطة.

ولكن العرب كانوا على خلاف اليونانيين كانوا يكرهون الدولة ويعادونها. فقد كان المجتمع العربي قبل الإسلام ضد الدولة. وكان يوصف بأنه مجتمع اللادولة. وعندما ظهر الإسلام جاء بالدولة، فكان الإسلام دولة قبل أن يكون ديناً مكتملاً. والدليل على ذلك أن الرسول عندما هاجر إلى المدينة كان أول عمل قام به تشكيل دولة الرسول المعروفة تاريخياً، فالإسلام إذن، هو الذي جاء بالدولة العربية ووحد القبائل العربية تحت راية الإسلام، وأقام الدولة من خلال الإسلام.

 

سيادة القبيلة الواحدة والطبقة الواحدة

منذ بداية الدولة العربية الكلاسيكية بعد العام 622 م، كان الخلفاء الراشدون ومعظم الولاة على الأمصار وقادة الجيش من طبقة قبلية واحدة هي قريش، رغم أن الذين اجتمعـوا في أول مؤتمر سياسي في سقيفـة بني ساعدة في المدينـة كانوا يريدون انتخاب خليفة من غير قريش من المهاجرين. وطالب الأنصار أن يكون من المهاجرين أمير ومن الأنصـار أمير (منكم أمير ومنا أمير)، وهو الحـق في زعمنا، إلا أن أبا بكر وعمر وقفا لهم بالمرصاد وردوهم، وأصرا على انتخاب قرشي، وهو أبو بكر، رغم أن الرسول قال: «اسمعـوا وأطيعوا ولو ولّي عليكم عبد ذو زبيبة». وهكذا كرَّست عصبية قريش السلطة فيها ولها، كحق مقدس لقريش لمدة عشرة قرون تقريباً (632-1517م) حتى سقوط الدولة العباسية. وأصبح القرشيون من الخلفاء هم أركان الدين وأركان السياسة في الوقت نفسه، مما أثار حفيظة القبائل العربية الأخرى، فقام شعراء وخطباء هذه القبائـل يحذِّرون من الطبيعة القمعية للسلطة، ويذكِّرون بشرور المُلك، ويتذكرون مظالم الفرس والروم، ليقولوا في النهاية انهم ليسوا على استعداد لاستبدال سطوات طغاة الروم والفرس بسطوات قريش المسيطرة في مكة والمدينة باسم الإسلام ووحدة الأمة.

 

مسؤولية قريش

ولا شك أن قريشاً هي المسؤولة طيلة عهد ماض وعهد حاضر عن هذا الصراع المحتدم بين دعاة فصل الدين عن الدولة، وبين دعاة وصل الدين بالدولة. وهي السبب الرئيسي في هذا الصراع الذي كلَّف الأمة العربية في الماضي والحاضر خسائر كبيرة لا تحصى، وذلك عندما أرست قريش مفهوم الملكية السياسية في الدولة العربية الكلاسيكية طيلة عشرة قرون لاحقة. وهي التي كـانت سبباً رئيساً في ربط الدين بالدولة طيلة خمسة عشر قرناً من الزمان (632-2007) وفي الصراع الديني بين المسلمين أنفسهم إلى يومنا هذا، وذلك عندمـا بدأ الأمر بالتعظيم من شأن قريش والزعم أنها «جُنَّة» للعرب والإسـلام. وتثبيت فكرة أن الدين الذي جاءت به قريش بلسانها ولغتها هو لكل الناس، ولكن السلطة السياسية لقريش فقط.

 

القبض على الدالين: الدين والدنيا

كـانت قريش هي القابضة على الدالين معاً: الدين والدنيا. ولم تكن هناك منذ البداية أي قسمــة بين ما لله وما لقيصر. فلاقيصر هنا. فلم يترك الخلفاء الراشدون الدين وتشريعاته وقضاءه لبقية الصحابـة الآخرين من حولهم وتفرغـوا هم لأمور الحكم وإدارة الدولـة. بل هـم تولوا كـل هذا بأنفسهم: الدين والدولة. وطلبوا من الرعايا أن يطيعوهم ما داموا هم ينفذون تعاليم الله. وهو ما جـاء على لسان أبي بكر في أول خطبة له بعد توليه الحكم.

ولم يكن في ذلك الوقت أي آليات سياسية تقوم عليها مراقبة أداء الحاكـم وعمله، وتحاسبه على عمله خطأ كان أم صواباً، علماً أن مثل هذه الآليات قد وجدت قبل مئات السنين من ظهور الإسلام عند اليونان وغيرهم من شعوب الأرض، ولكن العرب والمسلمين أهملوها ولم يأخذوا بها.

فقد رفض بعض الخلفاء الراشدين كعثمان بن عفان مثلاً الحساب من قبل الصحابة الجالسين من حوله – لعدم وجـود آلية شرعيـة وقانونيـة للحساب والعقاب. كما رفض التخلّي عن الحكم عندما طُولب بذلك. واعتبر أن الولاية والحكم هما من عند الله، وليس من عند الناس أو الشعب، وأن الله وحـده هو الذي ينـزع منه المُلك إن شاء وقدّر، وأن الناس لا تملك حق نزع الحكم منه. وقال قولته المشهورة التي أصبحت دستوراً عربياً إسلامياً واضحاً فيما بعد، كما استخدمت سيفاً مصلتاً على رقاب المعارضة: «والله لن أخلع أبداً البُردة التي ألبسني إياها الله.» وهو ما تسبب في قتله فيما بعد.

ولعل المهم في تجربة الحكم الراشدي أن الخليفـة وحده، هو الذي كانت تُعطى له البيعة، وهو الذي كان ينُتخَب في هذا النطاق المحدود الضيق، في حين أن آليات الانتخاب والبيعة هذه لم تكن تُطبق على الولاة، وهم من الأهمية بمكان كبير. فكان الولاة يعينون تعييناً مباشراً من قبل الخليفة، ولا ينتخبون من أهالي الأمصـار. كما كان عزل الولاة بيد الخليفة، وليس بقرار من أهالي الأمصار.

وإذا افترضنا أن السياسة هي فن الممكن وهدفها السلطة والامساك بالمجتمع المدني، فإن هذا المعنى للسياسة بدأه في التاريخ العربي الإسلامي عثمان بن عفان.

 

ورثة شرعيون لا انقلابيون ولا مغتصبون

سلك الخلفـاء الأمويون والعباسيون من بعد عثمان هذا المسلك، وهؤلاء لم يسلبوا السلطة الراشدة سلباً، بقدر ما كانوا الورثة الشرعيين لها، وبقدر ما حققوا اللحظة التاريخية لبروز الحاكم الخليفة. «فالعقيدة قد وجـدت وقامت بدورها التاريخي في زمن النبي عليه السلام، لتترك المجال للممارسة السياسية، والنبي عليه السلام هو الذي فتح المجال لسلطة الحاكم، فالحاكم لا يبرز إلا حين ينتقل العمل من حيز ترسيخ العقيدة إلى حيز الامساك بالسلطة، وحين تتحول العقيدة من عقيدة وعي إلى عقيدة دولة. وهو ما عبّر عنه الرسول الكريم (صلى الله عليه وسلم) بقوله: «الخلافة بعدي ثلاثون عاماً، ثم مُلك». وهو ما دفع واحداً من الخلفاء كعبد الملك بن مروان إلى القول في أول خطبة له في صلاة الجمعة: «والله لو قال لي أحدكم اتق الله، لضربت عنقه».

واعتُبر الحكَّام العرب والمسلمون فيما بعد بأنهم خلفاء الله على الأرض وليسوا خلفاء الرسول أو بممثلين للناس في الحكم. وهو ما يفسر قول معاوية: «الأرضُ لله... وأنا خليفةُ الله، فما أخذتُ فلي، وما تركتهُ للناس فبالفضل مني». وقول أبي جعفر المنصور حين تولّى الخلافة: «أيها الناس لقد أصبحنا لكم قادة، نحكمكم بحق الله الذي أولانا وسلطانه الذي أعطانا... وإنما أنا سلطان الله في أرضه، وحارسه على ماله، جعلني عليه قفلاً، إن شاء فتحني لإعطائكم، وإن شاء قفلني». وبما أن هؤلاء الحكام يطبقون الشريعة فهم ليسوا إلا نواباً عن الله في حكم الأرض، وهكذا نصل إلى الحكم بالحق الإلهي، وهؤلاء هم خلفاء وحكام الشرع وليس الشارع. وراحوا كلما اشتد صوت المعارضة وعلا، يرددون الآيات التي تشير إلى خلفاء الله في الأرض وحقهم الإلهي المقدس في الحكم.

 

لا شيء تغير

ومازلنا سياسياً على تلك الحال، وكأن التاريخ لم يتغير، وكأن الحياة قد توقفت عند القرن السابع الميلادي، نعم، فحياتنا السياسية نحن توقفت عند القرن السابع الميلادي، في حين أن الشعوب الأخرى تخلصت من نير السلف، وأصبحت راشدة وقادرة على اجتراح النظام السياسي الذي يلائمها الآن، وليس الذي كان يلائم السلف.

أليس الإسلام السياسي اليوم هو النصوص نفسها، والآليات نفسها، والخطاب نفسه الذي كان سائداً في القرن السابع الميلادي، واستمر طيلة عشرة قرون قطعها العثمانيون لمدة أربعة قرون، ثم عاد الآن كل شيء كما كان في القرن السابع الميلادي؟

 

كاتب أردني