درس السويد والجارات الإسكندنافيات هو درس المنظومة المتكاملة والإرادة السياسية والمجتمعية لتحقيق المساواة وتمكين المرأة، أما الواقع العربي فهو تعبير عن هيمنة الجزئي على الكلي وضعف الإرادة السياسية وحقائق مجتمعية لا تقل رجعية عن ممارسات النخب والدول بل ربما تجاوزتها.

Ad

من الصعب أن تأتي إلى السويد ولا تفكر، من بين أشياء أخرى بكل تأكيد، في ملف المساواة بين المرأة والرجل، فالسويد شأنها في ذلك شأن جاراتها الإسكندنافيات- النرويج والدنمارك وفنلندا- حققت أعلى معدلات المساواة بين الجنسين على المستويات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية الرئيسة. يمثل النساء أكثر من نصف قوة العمل في السويد وتصل معدلات العمالة بينهن إلى 85%، في حين يرتفع تمثيلهن في الحياة السياسية (الجهاز التنفيذي والوزارات والبرلمان) ليسجل النسبة الأفضل عالمياً 45%. كما تتمتع المرأة بشبكة من الضمانات القانونية والرعاية الاجتماعية تمكنها، إن رغبت، من إدارة حياة أسرية بجانب العمل وتحد كثيراً من احتمالات التمييز ضدها.

يلمح الغريب حقيقة المساواة في السويد سريعاً، فقد كانت لي على مدار اليومين الماضيين سلسلة من اللقاءات مع دوائر أكاديمية وسياسية تهتم بقضايا العالم العربي والشرق الأوسط ميزها بوضوح الحضور الطاغي للنساء. فعلى غداء عمل مع جامعيين ومثقفين وصحافيين حضرت المرأة بنسبة 90%، في حين لم يقل تمثيلهن عن 70% في حوار مغلق بوزارة الخارجية جمعني بدبلوماسيين وخبراء في هيئات التنمية الحكومية وغير الحكومية. ووراء كل ذلك التزام فعلي ومؤثر من قبل الحكومات السويدية المتعاقبة بسياسات تمكين النساء وعمل مستمر لتحفيز صناع القرار بقطاعات العمل المختلفة على إعطاء فرص حقيقية لهن للتميز المهني. بل إن السويد تجعل من المساواة والتمكين أهدافاً رئيسة لجهدها التنموي في العالم الثالث وترصد هيئاتها الحكومية وغير الحكومية بدقة وضعية المرأة خارج الغرب ومساحات التقدم أو التراجع في مسيرة مساواتها بالرجل.

ودون تجاهل للاختلافات الجوهرية بين مجتمع غني ومتقدم كالسويد وبين الأوضاع في عالمنا العربي واستمراراً للحلم بعالم عربي أجمل وأكثر حرية وعدالة ومساواة، تحفز التجربة السويدية على التفكير في الواقع المؤسف للتمييز ضد النساء بمجتمعاتنا ومتطلبات تغييره. أهم ما يلفت النظر هنا هو أن البيئة القانونية والاجتماعية والسياسية لاتزال غير مواتية للمساواة وتحوي العديد من المضامين والمفردات والممارسات التمييزية سواء في المجال الخاص (مجال الأفراد والأسرة وعلاقاتهم بكل ما يرتبه ذلك من حقوق وواجبات) أو في المجال العام (العمل والقطاعات المهنية والتمثيل السياسي وغيرها).

وعلى الرغم من محاولات متكررة قادتها نخب الحكم العربية خلال الأعوام القليلة الماضية لتغيير البيئة القانونية والاجتماعية، جاء بعضها شديد الأهمية والإيجابية كمدونة الأسرة بالمغرب والمساواة بين الأم المصرية والأب المصري في ما يتعلق بنقل الجنسية إلى أبناء الزيجات المختلطة (بين مواطنات أو مواطنين مصريين وغير مصريين) ومنح النساء كامل الحقوق السياسية في الكويت، إلا أن التزام النخب لم يتحول بعد إلى سياسة عامة واضحة المعالم بل إن الهيئات الحكومية تبدو في كثير من الأحيان متخبطة حائرة بين تكريس للتمييز هنا وبين بحث عن المساواة هناك. فالدول التي تعطي المرأة حقوق المواطنة الرئيسة بعد طول غياب وتحسن من وضعيتها في مجال العلاقات الأسرية هي نفسها التي تميز ضد العمالة النسائية في مؤسساتها العامة سواء على مستوى التشغيل أو مبدأ الأجر الواحد نظير العمل الواحد، وهي كذلك التي تستمر في قبول معدلات شديدة التدني لتمثيل المرأة بالجهاز التنفيذي والمجالس التشريعية وبالقطع بالمؤسسات القضائية.

ومع ذلك فإن تعثر دفع المساواة قدماً لا ينبغي أن يختزل فقط في إخفاق النخب والدول والهيئات الحكومية. فمجمل فعاليات المجتمعات العربية غير الحكومية سواء في المجال الاقتصادي (القطاع الخاص) أو في المجالات الاجتماعية والسياسية (المجتمع المدني والإعلام والمعارضات السياسية وغيرها) تمارس بصور مختلفة التمييز ضد النساء. معدلات تمثيلهن في منظمات المجتمع المدني وحركات المعارضة أضعف بكثير من الرجال، كما أن مبدأ الأجر الواحد نظير العمل الواحد لم يستقر بعد في القطاع الخاص.

درس السويد والجارات الإسكندنافيات هو إذن درس المنظومة المتكاملة والإرادة السياسية والمجتمعية لتحقيق المساواة وتمكين المرأة، أما الواقع العربي فهو تعبير عن هيمنة الجزئي على الكلي وضعف الإرادة السياسية وحقائق مجتمعية لا تقل رجعية عن ممارسات النخب والدول بل ربما تجاوزتها.

* كبير باحثين بمؤسسة كارنيغي - واشنطن