لم يستطع أحد أن ينزع عنه، على مدى القرون، رونقه الثقافي، الذي جعل من أرصفته ودكاكينه ومحلاته مقصدا لطلبة العلم والمعرفة والثقافة، وملتقى للحضارة منذ العهد العباسي. ووقفت السلطات الشمولية عند أعتابه، عاجزة عن فصله عن رواده وعن تحجيم دوره في الحياة العراقية. إنه شارع المتنبي الذي بقي شاهداً على عصر مضى وعلى حاضر يجهد من أجل الاستمرارية.

Ad

شارع المتنبي يعد من أقدم شوارع مدينة بغداد وأحد أبرز معالمها، يقع عند بداية شارع الرشيد، أقدم شوارع المدينة. فضلا عن كونه جزءاً من الجغرافيا الساخنة التي تمتد بين منطقة الباب المعظم والفضل وباب الشيخ والميدان.

وعلى مقربة منه تقع منطقة القشلة التي كانت مقرا للحكومة العراقية في العهدين العثماني والملكي، وشهدت تتويج الملك فيصل الأول سنة 1921. وتحتفظ المنطقة بمعمارها القديم، وهي تمثل شاهدا ومعلما تاريخيا لمدينة بغداد القديمة، بينما يمثل شارع المتنبي فيها رئة تنفس الثقافة العراقية، وتعد مقاهيه وأشهرها مقهى الشهبندر ملتقى الأدباء والمثقفين والكتاب والفنانين.

ويمتد تاريخ شارع المتنبي الى العصر العباسي اذ كان يسمى بـ«درب زاخا» وهي عبارة آرامية، وكان مشهورا بالمؤسسات الثقافية والدينية ومنها مدرستا الامير سعادة الرسائلي ورباط ارجوان، وفي العهد العثماني سمي بشارع «الاكمك خانة» أي المخبز العسكري.

ومن أبرز الذين عملوا في شارع المتنبي عبد الرحمن افندي الذي كان يبيع الكتب بالمزاد عام 1890، وفي عام 1900 كان الملا خضير بيع الكتب والمجلات في الشارع، وبعد وفاته جاء ابنه عبد الكريم، الذي اسس مكتبة المشرق، بينما أسس نعمان الاعظمي عام 1905 المكتبة العربية، وكذلك مطبعة كبيرة.

ومع بدايات الحرب العالمية الاولى، اسس محمود حلمي عام 1914 المكتبة العصرية، بينما اسس عام 1920 شمس الدين الحيدري المكتبة الأهلية، وبدأت في حينها بنشر كتب مؤسسة «فرانكلين». وفي عام 1932 اسس حسين الفلفلي مكتبة الزوراء، التي استمر احفاده في مزاولة مهنتهم فيها الى اليوم، كما اسس قاسم محمد الرجب مكتبة المثنى، واتفق مع دور النشر المصرية لتوريد نتاجاتها من الكتب المختلفة، ومن اعمالها اعادة طباعة قصة الف ليلة وليلة.

وتجدر الاشارة الى ان هنالك العشرات من الذين أسهموا في نشر الثقافة في شارع المتنبي منهم محمد جواد حيدر، صاحب مكتبة المعارف، وعلي الخاقاني، صاحب مكتبة النجاح، وعبد الرحمن حسن حياوي، صاحب مكتبة النهضة، فيما كان عبد الحميد الزاهد احد رجالات ثورة العشرين، من الذين يبيعون الكتب بالمزاد في شارع المتنبي خلال تلك الفترة.

وفي فترة حكم صدام حسين كان الشارع يخضع لرقابة الامن العام الذي كان يعمل على ضمان حظر تداول كتب تتناول التاريخ الحديث للعراق ومعظمها مذكرات كتبها منفيون وأعمال لرجال دين شيعة وسنة.

ومع ذلك كان يتم تهريب الكتب الممنوعة والتي غالبا ما كانت تطبع في بيروت إلى العراق عبر الاردن وسورية وتركيا.

ويقيم نعيم الشطري، صاحب أشهر مكتبة في شارع المتنبي، مزادا للكتب كل يوم جمعة يبيع خلاله الكتب النادرة لأشهر الكتّاب ومن بينها كتب منع نظام صدام حسين تداولها مثل قصائد الشاعر العراقي الشهير محمد مهدي الجواهري وغيره. لكن اليوم تغير الوضع وباتت جميع الكتب متاحة للقراء في الشارع وتباع علنا على الارصفة.

وبسبب عشقه للكتب باع الشطري مكتبته في البصرة بجنوب العراق وجاء للعيش في بغداد للعمل بتجارة الكتب منذ عام 1963. فحب العراقيين للقراءة كبير ، ولعقود كان الشارع احد المراكز الرئيسية للحياة الفكرية في العراق وهو ما يعكسه العدد الكبير من المكتبات المتراصة على جانبيه.

ولأنه سوق شعبي للكتاب، ولاجهة راعية له، يرى الزائر الكتب تتجاور مع بعضها مادياً رغم تناقض محتوياتها في بعض الاحيان. فترى الكتب القومية واليسارية والاسلامية مكدسة فوق بعضها البعض، وكتب الكيمياء والعلوم الطبيعية مع الأدب والشعر والفلسفة. كل شيء يختلط بشكل سلمي.

كتب تلهج بالعقائد والمذاهب الاسلامية، واخرى ترتفع في سماء تيارات العدمية. كتب ظاهرة على السطح، يحرك اوراقها المهترئة هواء حركة الاقدام المرتبكة، وأخرى غائبة تحت السطح، لا تظهر إلا بتوصية، ولا تؤخذ او تعطى إلا على قاعدة من الثقة المتبادلة.

كل هذا المزيج شكل هوية يصعب تحطيمها. فمن أين تأتي الى شارع هويته ان لا هوية له؟ هو قادر على امتصاص الجميع، ولا يستطيع ادراك غوره أحد.

هذا الشارع الذي كان يستوعب كل التيارات، استهدفه الارهاب، من خلال التفجير المروع الذي دمر اجزاء كبيرة منه، في 5 مارس 2007 عبر هجوم بسيارة ملغمة أدى الى مقتل ما لا يقل عن 30 متسوقا، فانهارت المكتبة العصرية بشكل كامل، وهي أقدم مكتبة في الشارع تأسست عام 1908. كما دمر مقهى الشهبندر الذي يعد من معالم بغداد العريقة. اضافة إلى تدمير واحتراق العديد من المكتبات والمطابع والمباني البغدادية الأثرية في الشارع.

تحول الشارع اثرا بعد عين، وتفرقت الاقدام المسرعة هربا من الكتب التي غدت نيرانا. خرج الجميع من عطفة الشارع باتجاه شارع الرشيد، ومن هناك الى الميدان.

الكتب فعلت الشيء نفسه، فتفرقت بسطاتها على شوارع العاصمة واسواقها. وهناك من ترك هذه المهنة نهائياً، واتجه الى وظيفة أو عمل آخر. وهناك من فتح «كشكا» لبيع الكتب في باب المعظم، او في اسواق الاحياء الشعبية داخل بغداد.

لكن رغم حالته الرثة استمر نشاط بيع الكتب في شارع المتنبي وبدأ الناس من جديد يتزاحمون في مجموعات حول أكوام الكتب القديمة والحديثة المعروضة على الارصفة أو فوق عربات صغيرة.

وآثار عشق العراقيين للقراءة والكتب مازالت موجودة بوضوح في نهاية شارع المتنبي حيث توجد مطبعة يعود تاريخها الى القرن التاسع عشر تحولت اليوم الى مقهى يرتاده أصحاب الفكر والقلم، ويقرأون به ما يشاءون بعيدا عن الضجيج والصخب.