بعد وقفتنا بالأمس مع قصائد سعدية مفرّح وبساتينها ومرآتها، ننتقل الآن إلى الجزء الآخر من هذه المقاربة في محاولة لاستقصاء معالم «الأرض الخصبة» لدى الشاعرة نجمة إدريس. فهل هي أرض خصبة معطاء أم أنها بساتين «لا أشجار فيها ولا تجري من تحتها الأنهار» ؟ في الحقيقة، لا تبدو علاقة إدريس بـ{الأرض الخصبة» واضحة المعالم، إذ إنها لم تعلن أن تلك البساتين جرداء قاحلة، كما انتهت إلى ذلك مفرّح، بل تبدو العلاقة لديها تتراوح بين الشد والجذب. تقول في قصيدة «ماذا لو...» من ديوانها «مجرة الماء»:«ماذا لو.../ يورق بستان في بستان/ تسقط أثمار الدهشة/ تنقط أشربة في فم/ تنبض رعشة؟....»يقول اللغويون إن «لو» حرف امتناع لامتناع. أي امتناع الأول لامتناع الثاني، أو العكس. كأن يقول أحدنا لو جئتني لأكرمتك، فامتنع الإكرام لامتناع المجيء. هكذا هو رأي اللغويين وقد يختلفون. على أي حال، فإن بساتين إدريس «ممتنعة» أو إن ثمارها ممتنعة لامتناع البساتين ذاتها. يزيد ذلك الامتناع غموضاً، الاستفهام الذي يأتي على رأس الجملة، إذن لو وجد بستان وأورق هذا البستان، فإن ثمار الدهشة ستسقط. لم تُسلّم إدريس أمرها، ولم تركن إلى الغياب والجفاء وما زالت تأمل. تقول في مقطع آخر من القصيدة ذاتها: « ماذا لو.../ننوي الحج لبستان الفضة/ نثقب سقف الأفق الأعمى / نتدلّى من أغصان هذا الكون الخائر/ فاكهة/ تتلامس أكؤسها البضّة/ نتساقط فوق سفوح الثلج الأسود/ بتلات/ بيضاء/ غضّة...»لم يكن ارتباط «الأرض الخصبة» بشعر إدريس ارتباطاً كلياً، بمعنى أن تأتي بالبساتين أو الحدائق الغناء في صورتها الكلية، بل هي تبحث عن الفاكهة والثمار الغضة، مع أن وجود البستان في حد ذاته أمر مشكوك أو «ممتنع».تتفق الشاعرتان مفرّح وإدريس بالاستدلال باللون الأزرق الذي يأتي في سياق الموت والجفاء والحرمان. تقول إدريس في قصيدة «أصدقاء»:«أحفر...أحفر.../ خلف الزمن المتكسّر/ والأوجه ذات الأيام الخضراء/ أحفر في قعر الساعات/ الغابرة المغبرّة/ أستهدي بدبيب الأجداث/ أتعبّق بالطين الوردي/ أتبرعم في بستان أزرق/ يعبرني كالماء المائج...»الشاهد من المقطع السابق «أتبرعم في بستان أزرق»، لم تستسلم الشاعرة إدريس لغياب ثمارها، فهي ذكرت في قصيدتها السابقة «ماذا لو...» أن البستان في كليتيه «ممتنع»، فماذا لو أثمر. ولكننا نجدها هنا تملّ الانتظار، لذا فهي «تحفر» وتحفر بحثاً عن الخصوبة والعطاء. إنها تستهدي بكل شيء وتبرعم في «بستان أزرق»، حتى وإن سلّمنا أن الزرقة تفضي إلى الموت والانتهاء، فإن الشاعرة ما زالت تعيش الأمل وتواصل البحث.الأسطورةتحتاج الأرض إلى السماء والبساتين، إلى الماء والأرض المروية دليل الخصوبة، والخصوبة مرتبطة بالأسطورة منذ القدم. تقول إدريس في القصيدة السابقة ذاتها:«يا أوجه تلك الأيام الخضراء/ وتلك الساعات الزرقاء/ يا درنات الجوع/ وفاكهة القلب/ من أين أتاك الطهر الريان/ الأثواب السابغة الكسلى/ والريش المتهفهف في نافذة الرؤيا..»من أشدّ ما يربط الأساطير ببعضها، هو محاولتها تقديم تفسير لمظاهر الوجود، كظهور الشمس والقمر والنجوم والنور والظلام والنار والماء والرعد والبرق والمطر. ويذهب د. عبد الحميد جيدة إلى أن الشعوب السامية التي سكنت بابل وسوريا عبدت «تمّوز» إله الخصب، لأن الماء رمز الحياة ورمز للموت والانبعاث.تقول إدريس «من أين أتاك الطهر الريّان»، لا يمكن للطهر إلا أن يكون مروياً خصباً، لأنه مرتبط بالمرأة، والمرأة مرتبطة بالعطاء، والعطاء قرين ذلك البستان النضر، الذي تراه مفرّح أرضاً جرداء. وما زالت إدريس تبحث، وإن كانت بلغة أقرب إلى التشاؤم والسوداوية، فبساتينها دائماً زرقاء، والشاعرة تحث الخطى بحثاً عنها وإن بعبارتها الاستفهامية « ماذا لو...»، لعل وعسى يصيبها شيء من النضارة. لم نشأ أن نوغل في حديثنا حول الأسطورة، فقصائد الشاعرتين، ليست محمّلة بكم هائل من الترميز، يسمح باستقصاء ملامح أسطورية أكثر من تلك، وإنما هو الإيحاء والإشارة، من زاوية المطر، والخصوبة، والعطاء. وبالتأكيد لن يكون من قبيل المصادفة أن تكون القصائد المدروسة لشاعرتين، فالمرأة رمز الخصوبة ورمز العطاء، وهي الأسطورة بذاتها.ولن نتعجب حين نتأمل عنوان مجموعة الشاعرة إدريس»مجرة الماء»، فالمجرّة أصل الكون والماء لبّ الحياة ومبتدئها. وفي البدء كان الإنسان، وكانت الأسطورة.الصدق الفنيقد لا أكون مجانباً للصواب إذا زعمت أن قصائد هاتين الشاعرتين فيها قدر كبير من «الصّدق الفني»، وهو مصطلح أدبي يدور حوله جدل كبير، لا سيما إذا أردنا أن نفرق بينه وبين «الصدق التعبيري» وكذلك «الصدق الأخلاقي»، ليس من مجال للحديث عن الصدق التعبيري أو الأخلاقي، فالأدب في مجمله إبداع متخيّل ولسنا في صدد خبر منقول كي نتحدث عن صدقه أو كذبه. ولكننا في المجمل نستطيع استخلاص الصدق الفني من خلال ربط النصوص بما يلامس حياة الشاعر، وكذلك رؤيته للمتخيّل، موضوع النص، بالإضافة إلى الأدوات التي يستخدمها الشاعر لتوصيل رؤيته. ولو توقفنا لبرهة عند قصيدة لإدريس مهداة إلى الشاعر الكبير أحمد السقاف تقول فيها:«لما كان الخطو المُضنى/ يتلكأ فوق سياج الغربة/ كنت تجيء/ كظل العصر الوارف/ تمسح عن «لندن» أوشاب الوحشة/ وترد على كتفيها العاريتين/ شال الصوف الحاسر..»لن يغيب عمّن يدرك شيئاً من حياة الشاعرة أنها أكملت دراساتها العليا في المملكة المتحدة، وأنها أقامت في مدينة لندن ردحاً من الزمان، والقصيدة تتحدث عن لقاء في لندن حيث يواسيها الشاعر/الأب والصديق أحمد السقاف، ويمحو عنها شيئاً من أشجان الغربة. إذن فالقصيدة تنطلق من موقف حياتي حقيقي، وتحلق نحو إبداع يلامس شيئاً من الحقيقة، من دون مباشرة أو ابتذال، فحين تتوافر الحقيقة، وتصدق الرؤية والأدوات الفنية يتولد الصدق الإبداعي.ينطبق الأمر ذاته على كثير من قصائد مفرّح، وأكاد أزعم أن جلَّ ما تكتب، تعبير صادق ينطلق من مواقف حياتية حقيقية. يظهر ذلك بشكل أكثر وضوحاً في ديوانيها الأخيرين «مجرد مرآة مستلقية» و «تواضعت أحلامي كثيراً». فهي لا تجيد رصّ الجمل البلاغية، أو تكثيف الصورة الشعرية، من دون أن تكون صادرة عن موقف انفعالي، أو محفّز إنساني ووجداني، ولعل ذلك ما يميز شعرها، تقول في قصيدة «هذي أنا»:« المزدحمة بكل ما يضج به العالم منفرداً/ كل شيء يتفرق هناك/ يتجمع هنا/ كل شيء يتباعد حولي/ فيّ/ كل غيم يفلته البحر هواء كثيفاً يطير/ أمطره نديفاً/ وتجتاح غرفتي السيول»وقد يبدو الأمر أكثر وضوحاً في قصائد مثل: «ضرورة» و «حقيبة وأخرى» و «كآبة» و{ابتسامة» و «بيننا فقط» من المجموعة الشعرية ذاتها.
توابل - ثقافات
قراءة في قصائد سعدية مفرّح ونجمة إدريس 2-2 الأرض الخصبة في رموز وإشارات مُشتركة
29-04-2008