الخبرة الأوروبية، تحديداً في دول شمال وغرب القارة، تختلف عن النموذج الأميركي اختلافاً جذرياً، فالحرية والمسؤولية الفردية هما قيمتان حاكمتان للحياة المجتمعية في أوروبا وتتبديان بصور متعددة في نمط إدارة الاقتصاد والسياسة والثقافة، إلا أن للدولة ومؤسساتها العامة أدواراً رئيسة في ضمان عدالة الحد الأدنى بين المواطنين وحماية الضعفاء منهم، على عكس ما يحدث في أميركا حيث تمتنع الدولة والمجتمع عن التدخل حين تلفظهم آلة السوق الوحشية خارج حلبة المنافسة. في الكثير من الأحيان نعمم نحن العرب حين ننظر إلى الولايات المتحدة الأميركية والدول الأوروبية متحدثين عن الغرب، متجاهلين بذلك العديد من الخلافات الجوهرية بين دفتي الأطلسي، بكل تأكيد ينتمي الأميركيون والأوروبيون، خاصة الغربيين، إلى منظومة حضارية واحدة وتتقارب رؤاهم الى العالم الخارجي إلى حد كبير، إلا أن أنماط إدارة الحياة المجتمعية وشبكة العلاقات بين الدولة والمواطنين تتباين بوضوح.فالولايات المتحدة هي مجتمع فردي بامتياز تديره قوى السوق ويقتصر فيه دور الدولة ومؤسساتها على حفظ الأمن والنظام العام وصياغة وتطبيق التوجهات الكبرى للسياسة الداخلية والخارجية. تتيح آليات الاقتصاد الحر ودينامية المنافسة للمواطنين الأميركيين فرص لا نهائية في جل قطاعات الحياة الرئيسة، إلا أنها تتركهم بمفردهم لمواجهة تقلباتها وتحمل العواقب المترتبة عليها من دون تدخل فعلي أو مساعدة ناجعة من جانب الدولة أو المجتمع. ليس من الغريب إذاً أن نجد في الولايات المتحدة معدلات شديدة الارتفاع للفقر وللأمية ومحدودية مرعبة لشبكات الضمانات الاجتماعية، خاصة الرعاية الصحية، وجميعها لا تتناسب مع تراكم الثروة والطاقة الاقتصادية الهائلة للقوة العظمى. فحرية الاختيار الفردي في نمط الحياة الأميركي تستتبع فردية المسؤولية الملقاة على كاهل المواطنين كونهم مشاركين ذوي حظوظ متفاوتة في الاقتصاد الحر، وامتناع الدولة والمجتمع عن التدخل حين تلفظهم آلة السوق الوحشية خارج حلبة المنافسة بغض النظر عن الظروف والسياقات.أما الخبرة الأوروبية، تحديداً في دول شمال وغرب القارة، فتختلف عن النموذج الأميركي اختلافاً جذرياً. نعم الحرية والمسؤولية الفردية هما أيضاً قيمتان حاكمتان للحياة المجتمعية في أوروبا وتتبديان بصور متعددة في نمط إدارة الاقتصاد والسياسة والثقافة، إلا أن للدولة ومؤسساتها العامة أدواراً رئيسة في ضمان عدالة الحد الأدنى بين المواطنين وحماية الضعفاء منهم. من هنا تطورت في أوروبا القرن العشرين، خاصة في أعقاب الحرب العالمية الثانية، شبكات واسعة للضمانات الاجتماعية أضحت معها حقوق من شاكلة؛ حق التعليم، والرعاية الصحية، والحماية من الفقر، مكفولة للمواطنين جميعهم بغض النظر عن حظوظهم من الغنى والفقر، بعبارة بديلة، نحن هنا أمام دينامية منظبطة مجتمعياً لاقتصادات السوق الحر تضمنها الدولة وتوافق عليها المواطنون الأوروبيون على نحو أنتج نموذجاً مجتمعياً يربط الاختيار الفردي بالمسؤولية الجماعية ويقترب بالتالي من تحقيق توازن نسبي بين قيمتي الحرية والعدالة. بالقطع مرت دولة الرفاه الأوروبية، كما اصطلح على تسميتها في أدبيات العلوم السياسية، بأزمات متعددة في العقود الثلاثة الماضية وانقلاب بعض حكومات القارة العجوز على ركائزها، لاسيما في بريطانيا منذ الحقبة التاتشرية (نسبة إلى رئيسة الوزراء السابقة مارغريت تاتشر). على الرغم من ذلك مازال نمط إدارة الحياة المجتمعية في أوروبا يعكس التزاماً واضحاً بعدالة الحد الأدنى وعدم وضع مصائر المواطنين بالمطلق في يد السوق.قضية أخرى تتفاوت بين الغرب الأميركي والأوروبي هي تلك المرتبطة بمضامين المواطنة كالخيط الناظم للعلاقة بين الدولة والمجتمع والأفراد في سياق الممارسة الديموقراطية. ففي حين تتسم الخبرة الأوروبية باستناد مفهوم المواطنة إلى تصور قومي يفرق بين أعضاء المجتمع الأصلاء من جانب، والغرباء بمن فيهم المجنسون والمقيمون إقامة دائمة، على جانب آخر تتميز الولايات المتحدة الأميركية بغياب مثل هذه الرؤية وبسهولة نقل الشعور بالانتماء الى الوطن الأميركي للغريب الوافد، إن رغب هو في ذلك. طبيعي إذاً أن تشكل القضايا المتعلقة بالأقليات الأجنبية، خاصة العربية والمسلمة منذ الحادي عشر من سبتمبر 2001، وعلى نحو مستمر نقاطاً خلافية كبرى في أوروبا، بينما يبدو اندماج الغرباء في المجتمع الأميركي بمنزلة الأمر المحسوم شريطة توافر الاختيار الفردي الرشيد، وبين النموذجين من الاختلافات والتناقضات الكثير.*كبير باحثين في مؤسسة «كارنيجي للسلام العالمي» ـ واشنطن
مقالات
بحور التناقض بين الولايات المتحدة وأوروبا
26-08-2007