أشار إليَّ أحد الأصدقاء بقراءة رواية «ميمونة» للكاتب السعودي محمود تراوري، وأردف قائلاً: «إنها إحدى الروايات التي ما إن تقرأ منها بضعة أسطر حتى تشرُد بخيالك، متأملاً المشهد بكامله».

Ad

صدق ظنّ صديقي، فقد استغرقت مني قراءة الرواية أكثر من ثلاثة أيام، وهي بالكاد تتجاوز 160 صفحة.

تفتح الرواية الباب مشرعاً أمام أسئلة ثقافية وتاريخية واجتماعية عدة. الجانب الثقافي يتعلق بتراث الحجاز وأغاني البحر، تلك المتأثرة بالتراث الأفريقي، مثل لعبة «المزمار» وما يرافقها من أحداث وطقوس. أما الجانب التاريخي فهو المتعلّق بهجرات القبائل الأفريقية من بلادها، رغبة في أداء فريضة الحج ومجاورة البلد الحرام. وليست هذه الهجرات رحلة تنزّه سهلة، إنما عناء ومشقّة.

يبدو الشق الاجتماعي في الرواية جلياً حين ننظر إلى وضع هؤلاء الحجيج الأفارقة بعد وصولهم إلى الأراضي المقدسة وعلاقتهم بالمجتمع من سكان مكة، لا سيما «الأعراب» الذين تقف الرواية معهم وقفة مطولة، تقوم على قراءة نفوسهم والتوغل في طبائعهم بكل ما تزخر من قساوة وخبث ومكر وخداع. إنها الصحراء، يأكل القوي فيها الضعيف. استوقفتني عبارة سطّرها الروائي في مفتتح روايته تقول: «فينا شيء من طبع الذئاب وفي الذئاب شيء منا» مذيلة بتوقيع «راعٍ قديم»، وفي الصفحة ذاتها نجد في الأعلى الآية القرآنية «ربنا إني أسكنت من ذريتي بوادٍ غير ذي زرع عند بيتك المحرّم...»

لن يتاح إلى أي قارئ ملاحظة التعارض الفني والمضموني الذي يقوم عليه هذان النصان إلا إذا قرأ الرواية وانطلق بخياله بعد كل مقطع أو فصل منها- كما يقول صديقي- فالآية القرآنية تتحدث عن أفئدة يملؤها الحب والأمان وعن ثمرات ورزق وصلاة وشكر. ولكن الواقع المرير الذي واجهه بعض الحجيج الأفارقة هو شيء مختلف تماماً، إذ تعرضوا إلى النهب والسرقة في صحراء الحجاز، وتعرض أبناؤهم إلى الخطف ومن ثم العبودية وهم في جوار البيت الحرام. إنه طبع الذئاب مسكون في أهالي هذه المنطقة كذلك في الذئاب شيء من طبعهم.

وفي الحقيقة لست أدري كيف خطر لي وأنا على وشك الانتهاء من القراءة أن هذه الرواية مساءلة شرعية وقانونية لثقافة الصحراء. إنها إعادة محاكمة للأعراب، إذ كيف تسمح لهم نفوسهم نهب قافلة الحجيج وهم في طريقهم إما إلى بيت الله الحرام، أو إلى المدينة المنورة، وبيت المقدس كما هو الحال مع بعض أشخاص الرواية؟ والأنكى أن يخطفوا أناساً أحراراً ثم يبيعونهم في أسواق النخاسة، السرية تارة والعلنية تارة أخرى.

يقتحم تراوري الواقع ، ويعيد قراءة التاريخ ومساءلة أحداثه وشخصياته، وهي منطقة مسكوت عنها وليست مألوفة في الإبداع الروائي السعودي أو الخليجي. قد لا تكون هذه المنطقة ضمن ثالوث التحريم المعروف على المستوى الكتابي والإبداعي، لكن يحتاج خوض غمارها إلى قراءة وثقافة تاريخية ودقة في معرفة الشخصيات والأحداث. وبما أن هذا التاريخ لم يكن مدوناً أو مصرحاً به، فإن تراوري- فيما يبدو لي- استعان بالذاكرة الشفاهية واستقصى الحالة بأبعادها كلها، حتى خرج لنا بهذه «الوثيقة» الروائية القيمة.

إنها رواية محكمة على المستوى الفني وتكاد تلمس قضية طرحت كثيراً على المستوى العالمي، وهي قضية الاستعباد وخطف أطفال أفريقيا، إلا أنها على مستوى الأدب العربي، هي منطقة بكر يخوضها تراوري. نتمنى أن يقتحم روائيون آخرون التجربة ذاتها وإن من منظور أو زاوية مختلفة. فتاريخ الحجاز غني بالتراث ومتعدد الشعوب والأعراق.