إن ظاهرة «الصراخ» هي ظاهرة ملفتة للنظر في المجتمع الكويتي، وتتلخص تلك الظاهرة في علو الصوت يصاحبه احمرار في الوجه وبروز في العروق الدموية عند صاحبها «المشتط» وأحياناً إشعاعات «شبه نووية» تخرج من العين وكأنها سهام موجهة لقتل الطرف الآخر.

Ad

تلك الظاهرة قد تكون طبيعية عندما يعبّر شخص ما عن كارثة حدثت له، كجريمة قتل أو نهب على سبيل المثال لا الحصر، فعندما يقتل للإنسان شخص عزيز أو يسرق ماله فإنه من الطبيعي أن يتأثر هذا الشخص «عاطفياً» بالموضوع ويعبّر عن عواطفه وغضبه الشديد إلى درجة فقدان القدرة على التفكير العقلاني أو المنطقي مرحلياً، وقد يبدأ هذا الشخص بالصراخ والعويل ثم يعود بعدها إلى رشده ويتقبل حدوث الكارثة ثم يتعامل معها. أما أن تنتشر هذه الظاهرة كي تصبح وسيلة للتعبير «شبه طبيعية» عند الاختلاف في وجهات النظر فهذا أمر يدعو الى القلق.

تعبر هذه الظاهرة عن نفسها في المجالس العائلية، ومجالس الأصدقاء والدواوين، وللأسف الشديد فإننا نراها في بعض القاعات الدراسية، وكذلك في مجلس الأمة.

إن المشكلة في «الصراخ» تكمن فيما تعبر عنه هذه الظاهرة، فهي تعبر في الأساس عن عدم احترام للطرف الآخر وعدم تقدير لعقله، فبدل استخدام الحجج المنطقية والعقلانية في دعم الرأي والاقناع، يلجـأ الشخص الى الصراخ كي يفرض على الطرف الآخر سماعه والالتزام برأيه والامتناع عن المعارضة وإلا «فالهوشة هي السبيل الى حل الخلاف»، تعبّر تلك الظاهرة أيضاً عن أن الشخص «المهاوشجي كثير الصراخ» يملك الحقيقة فيما يتعلق بالموضوع المطروح للنقاش، وكل من يخالف رأيه فإنه في «ضلال مبين»، فمعيار الحقيقة هنا هو متانة الأحبال الصوتية وليس متانة الحجة والبرهان المبنيين على أسس عقلانية منطقية.

إن اللجوء إلى «الصراخ» كوسيلة للاقناع بهذا الشكل هو في نهاية الأمر محاولة لإلغاء العقل، وإحلال العواطف الجياشة محله في الحكم على الأمور «المختلف عليها»، وتجيير المزيد من المؤيدين عن طريق مخاطبة عواطفهم لا عقولهم.

إن ظاهرة «الصراخ» الهادف إلى استغلال العواطف وتهييجها غالباً ما يصاحبها هجوم شخصي غير مبرر على الأطراف التي تحمل الرأي أو الفكر المضاد. هذا الهجوم ينجم غالباً عن خلط غير مبرر بين الفكرة وصاحبها. فالخلاف غالباً ما يكون حول فكرة معينة، مفهوم معين، تحليل معين، رؤية معينة للموضوع من زاوية معينة، وهنا فإن صاحب الفكرة أو الرأي «كإنسان» هو ليس موضوعا للخلاف. فسلوكه الشخصي أو معتقداته الشخصية أو انتماءاته الدينية أو الاجتماعية ليس لها دخل في تقييم الفكرة أو الرأي المطروح للنقاش.

إن الحجة التي تستند إليها الفكرة أو الرأي هي المقياس لصحة هذا الرأي من عدمه، إلا إننا غالباً ما نلحظ لجوء أصحاب الحناجر ذات النبرة العالية إلى الهجوم الشخصي كوسيلة لإضعاف حجة الطرف الآخر، وغالبا ما يفصح هذا الأسلوب عن مشاعر سلبية وتعصب أعمى بعيداً كل البعد عن استخدام أي من الأدوات العقلية في الحكم على الأمور.

مخطئ من يعتقد أن علو الصوت والغلو في استخدام اللغة والقذف المبرمج للكلمات الرنانة هو دليل على صحة الرأي وسلامة الحجة، وإن الصراخ لا يعلي من شأن صاحبه، بل يقدم صاحبه على أنه «مهاوشجي» عديم الحجة، وإلا لما اضطر إلى استخدام العواطف واللغة الملغمة على حساب الحجة العقلانية المقنعة.

إن العقل نعمة من رب العالمين فاستخدموه لعله يساهم في تهدئة نفوس «المعصبين والمهاوشجية» ولعله يوصلكم الى الحقيقة التي تنشدونها.