عزة جاد

قدّم لهذا الكتاب الرئيس الأسبق للجمعية العالمية للطب النفسي الدكتور أحمد عكاشة. يتناول الكتاب قضية التعذيب في السجون والمعتقلات وأماكن الاحتجاز. هي قضية شائكة في عالمنا العربي لم تعالجها الدراسات الاّ قليلاً.

Ad

ليس الكتاب رصداً إحصائياً فحسب بل تحليلاً للظاهرة من جوانبها المختلفة ومحاولة تقديم إجابات عن تساؤلات متعدّدة عما يدور في أذهان الجلادين وعن قدرتهم على تعذيب بشر مثلهم. هل هم عاديون أم مرضى نفسيون؟ ما الأبعاد النفسية والسياسية التي تقف وراء من يقوم بالتعذيب، وكيف تكون النهاية؟

ظاهرة عالمية

يتعامل الكتاب مع التعذيب على اعتبار أنه ظاهرة تطال الجنس البشري بأجمعه. لم يقتصر التعذيب على بلد دون آخر وبحسب د.عكاشة يعكس حقيقة مؤلمة مفادها أن التعذيب ليس اختراعاً بشرياً فحسب إنما أيضاً ظاهرة عالمية من المفارقة بمكان أن تقوم العولمة، التي وعدتنا بتحويل العالم إلى قرية صغيرة يملكها البشر جميعاً، بعولمة التعذيب والمعتقلات.

يلقي الكتاب الضوء على الآليات النفسية التي يستخدمها المسؤولون عن التعذيب من أجل تبرير أفعالهم أو تحصين أنفسهم من الشعور بالذنب وبفداحة ما ارتكبوه استناداً الى الخلفية السياسية والنظام السياسي ما يدعم هؤلاء مقدّماً لهم الحماية وتغطية ممارساتهم.

تشير المؤلفة: «رغم ندرة الدراسات التي تم إجراؤها على من زاولوا فعل التعذيب، إلا أن ثمة شبه إجماع على أن الطاعة العمياء ربما تكون المحرك الأساسي لدى الذين يتلقون الأمر بتعذيب الضحية منفذين مباشرة، بأنفسهم وبأيديهم، ممثلين الفئة الأقل شأناً في منظومة التعذيب التي تعاني فقر الموارد المادية والظروف المعيشية السيئة وتملك احتياجاً دفيناً للتنفيس عن القهر والاحباطات المستمرة. الأمر يختلف حتماً لدى الذين يصدرون الأوامر مكتفين بالمتابعة حيث تتوافر عوامل عدة الى الطاعة والامتثال لقواعد النظام وسياسته.

تؤدّي بعض الآليات الدفاعية النفسية التي تتم في اللاوعي دوراً في إذكاء طاعة رؤساء المكلفين بالتعذيب: «آلية الإحلال» التي تعتمد على إخراج والأحاسيس المتوافرة تجاه شخص ما وإسباغها على آخر. الآلية تشبع احتياجاً أساسياً لدى القائمين بالتعذيب حيث يتخلصون من بعض القهر والإهانة لمكونات رئيسية في حياتهم. إضافة الى الطاعة العمياء فكثر يملكون ذلك الإيمان العميق بأنهم يخوضون معركة لها أهداف سامية وأن ضحاياهم هم أعداء الشعب. يظلون حتى النهاية على قناعة بصواب ما يفعلون.

ترصد المؤلفة مدى التقارب الحاصل بين الضحية، والقائم بالتعذيب مع ما للانعكاس على فعل التعذيب ذاته، بأن التقارب المعنوي مع الضحية الذي قد يحدث على مدار فترة الاحتجاز الممتدة لسنوات، يزيد من حدة العنف والتعذيب، وأن ثمة تناسباً طردياً ما بين ازدياد عنف القائم بالتعذيب ونشوء التقارب المعنوي مع الضحية. ذلك نتيجة طبيعة الأحاسيس التي تكتنف الأول. مع مرور الوقت وحدوث شيء من التألق بين الطرفين يكتشف القائم بالتعذيب أن ضحيته تختلف عن الصورة التي رسمها وأنها تمتلك صفات إنسانية عادية. غير أن المبالغة في تحقير سلوكها والتهويل هما محض تزييف لما يلمسه بنفسه. من هنا ثمة صراع داخلي ينشأ ما بين واجب الاستمرار في التعذيب وبدء الادراك. بما أن التخلي عن عمله الوحيد هو أمر بعيد الحدوث لا يصبح أمامه سوى الانتقام من الطرف الأضعف أمامه الذي تسبب له بصراع غير مرغوب فيه ورغبة منه في إسكات الصوت الذي يلح عليه.

نطّة الرنب

عن الرموز المستخدمة في التعذيب تشير المؤلفة بأنها إحدى الطرق المتبعة لتخفيف مواجهة القائم بالتعذيب مع المعنى الحقيقي للفعل الذي يزاوله، حيث يطلق على الأدوات المستخدمة في التعذيب لغة تتكون من مفردات خاصة. يشير أحدهم الى الآخر، على سبيل المثال، بوصفه الطبيب، كما توصف بعض أوضاع التعذيب في السودان بـ «الطيارة قامت»، وبعض الحركات الإجبارية العنيفة بـ «نطة الأرنب».

ماذا عن التبعات التي تلحق بالقائم على التعذيب؟ تجيب المؤلفة: تقع عليهم ضغوط عنيفة، فحينما ينتهي كل شيء وينهار النظام من داخله ويضمحل هذا الفيض من العطاء المبذول لمصلحة الوطن أو لأي سبب يتعرض لتأثيرات حياتية مدمر. في حال لم يستطع القائم بالتعذيب الابتعاد في الوقت المناسب والنجاة من التأثيرات الحياتية المدمرة التي يفرضها عليه العمل اليومي قد يمتد الأمر ويتطور ليصبح جزءاً من السلوك الاعتيادي. لا يمكن وضع حدود له حيث يقوم الشخص باستكمال مهمته بغض النظر عن المكان أو الزمان أو الضحية. قام أحد ممارسي التعذيب بالفعل بتقييد زوجته وأطفاله وتعذيبهم من دون سبب واضح سوى أن هذا هو ما اعتاد فعله مع ضحاياه.