هنالك ظاهرة لم أتخيل قط مدى انتشارها في جامعة الكويت، وبالأخص كلية الآداب حيث أعمل، تلك هي ظاهرة «طراروة الدرجات». تكمن هذه الظاهرة في تمركز أعداد هائلة من الطلبة وأولياء أمورهم أو معارفهم في ممرات الأقسام العلمية، حيث تعلق الدرجات النهائية للفصل الدراسي.

Ad

هذا التمركز له هدف واضح ومحدد، ألا وهو الضغط على أستاذ المادة لتغيير التقدير النهائي الذي حصل عليه الطالب.

تأخذ هذه الظاهرة شكلا آخر، وذلك من خلال الاتصالات الهاتفية المكثفة التي تنهال على أستاذ المادة من الأقارب والأصدقاء، أو حتى من قبل زملاء عمل من الأساتذة الآخرين أو نواب مجلس أمة «من الفاضيين والمتفرغين لإدارة شؤون الرعية وتظبيطهم»، وتهدف تلك الاتصالات إلى الضغط على أستاذ المادة ومطالبته «بتظبيط» فلان من الطلبة (أي منحه تقديرا عاليا لا يستحقه) لأنه ابن أو ابنة خال جار زميلي في الديوانية، أو لأن أباه «صاحبنا» على سبيل المثال.

«يا سلام!!» كانت تلك هي ردة فعلي الأولى عندما صعقت بمطالبة بعض الطلبة الحاصلين على تقديرات متدنية جدا بأن «أمنحهم» عشرين أو ثلاثين درجة كي يحصلوا على التقدير الذي «يريدونه» بغض النظر عن أدائهم خلال الفصل الدراسي، ومدى استحقاقهم تلك الدرجات.

«وين قاعدين؟!» ردة فعل أخرى بصعقة أخرى عندما طالب بعض آخر من الطلبة بتغيير تقديراتهم النهائية من امتياز منخفض إلى مرتفع، أو من جيد جدا منخفض إلى امتياز منخفض وهكذا، مستندين في مطلبهم إلى مقولة «دكتورة انتي شنو خاسرة؟ أو «إشدعوه عاد... ترى ما طلبنا شي» أو مقولة «إنتي كريمة... وإحنا نستاهل».

الأدهى والأمرّ هو المنطق الذي يستخدمه أولياء الأمور ذوو الواسطات بمختلف أشكالها للضغط على الأساتذة. ولي أمر مثلاً يقول لي: «علشان هالشيبات... أدري ما راح اترديني»، أو «دكتورة طلبتك.. مستقبل ولدي بين ايديك.. لا تخذليني» أو «دكتورة أهلك ناس وايد طيبين.. وانتي وحدة منهم».

تتبع هذه المطالبات تصنيفات معينة للأساتذة، فهنالك الأستاذ «النحيس»، أو «البخيل» وذلك على خلاف الأستاذ «المتفهم». الأستاذ «النحيس» أو البخيل هو الأستاذ الذي لا يرضخ للضغوطات، ويعتبر درجات الطالب هي المعيار الوحيد للتقدير العام الذي يحصل عليه في النهاية. أما الأستاذ «المتفهم» فهو الأستاذ الذي ينسف كل المعايير الخاصة بالتقييم الموضوعي والعادل ويضع في النهاية التقدير المناسب للطالب على «هواه» تمشيا مع مقولة «لين حبتك عيني... ما ظامك الدهر» أو مقولة «شيلني وأشيلك».

لا أخفي على أحد أنه للحظة من الزمن اختلطت علي الأمور وأحسست أنني أجلس في «سوق الحراج» أو «سوق الجمعة» يُطلب مني أن أمنح الدرجات لمن له قدرة أكبر على المفاصلة.

هذه مهزلة... بل كارثة حقيقية تمر علينا مرور الكرام مع نهاية كل فصل دراسي. كارثة عندما يؤمن البعض بأن التقديرات التي يحصل عليها الطلبة هي عبارة عن هبات وزكوات يوزعها عليهم الأساتذة من جيوبهم الخاصة، كل حسب قربه إلى الأستاذ أو حسب ترابط مصلحي بين أستاذ المادة وأقرباء الطالب، وليس بناء على جهد متراكم يبذله الطالب منذ بداية الفصل الدراسي ويترجم في النهاية على شكل تقدير يعكس مستواه.

إنها كارثة حقيقية أن يؤمن العديد من طلبتنا بأن العمل الجاد والدراسة ليسا من المعايير المطلوبة للحصول على الدرجة، بل إن الواسطة هي المعيار. إنها كارثة أيضا عندما يدعم أولياء الأمور أبناءهم الطلبة في تلك المطالبات غير العادلة، والكارثة الأكبر هي تجاوب بعض أساتذة الجامعة مع تلك الضغوط، والأدهى والأمرّ من ذلك هو ممارسة البعض منهم تلك الضغوط على زملائهم والأمثلة على ذلك كثيرة.

ظاهرة «طراروة الدرجات» تعبر عن كارثة أخلاقية، فالمطالبة بتغيير الدرجة والاستجابة لتلك المطالبة تؤدي إلى انتهاك معايير وقيم أخلاقية على درجة كبيرة من الأهمية، مثل الصدق والأمانة والعدل والمساواة.

إن تغيير درجة الطالب النهائية استجابة لضغوط خارجية هي عملية غش صريحة، والغش يحوي ضمنيا الكذب والخيانة، إن الغش والكذب في منح الدرجات هو خيانة للأمانة التي يحملها الأستاذ على عاتقه، تلك الخيانة للأمانة ينتج عنها انتهاك لمفهوم العدالة والمساواة في التعامل مع أبنائنا الطلبة، إن العدالة تعرّف بصورة عامة على أنها إعطاء كل ذي حق حقه، وعند منح الطالب درجة لا يستحقها فهذا بعينه انتهاك لمفهوم العدالة الذي لابد أن يكون معيارا يحدد طبيعة العلاقة بين الطالب والأستاذ.

لا يكترث الكثير منا بالقيم الأخلاقية ولا يحرك لنا ساكنا عندما تنتهك تلك القيم مادام هذا الانتهاك يحقق مصلحة آنية للشخص صاحب العلاقة.

هذا ما توصلت إليه من خلال تعاملي مع «طراروة الدرجات» أحمد الله كثيرا على كوني أستاذة «نحيسة جدا وبخيلة» وقلبي على مستقبل بلدي، إذا ما ساد فيه هؤلاء «الطراروة» وتبوءوا مناصب حساسة.