إن صمود «حزب الله» في أي حرب جديدة سيدفعه، ما إن تنتهي الحرب، إلى الاستعداد للحرب التي تلي، ومن دون تغيير حاسم في موازين القوى الدولية تسير موارده إلى نضوب، بمعنى أنه في هذه الحرب التي قد تقع، سيجد نفسه مجبراً على استنزاف موارده كافة، مما يجعل الحرب التي تليها أشد هولاً من سابقتها.

Ad

كانت حرب يوليو من العام 2006 حرباً ناقصة كمثيلتها في الشهر نفسه من العام 1981، حيث استكملتها إسرائيل بحرب أخرى تمثلت في اجتياحها لبنان واحتلال بيروت في يونيو من العام 1982. حرب صيف العام 2006 كانت ناقصة، ومبتورة النهاية. هذا على الأقل ما توحي به موازين القوى المكشوفة. ذلك أن انتصار «حزب الله» في تلك الحرب جعل من تكرارها أمراً حتمياً ولا بد منه. والحق أن «حزب الله» يتصرف على هذا الأساس منذ انتهاء تلك الحرب، وقد ضاعف من وتيرة استعداداته في الأسبوعين الأخيرين بعد اغتيال قائده العسكري عماد مغنية في دمشق.

من نافل القول أن إسرائيل المحاربة هي الدولة الوحيدة في العالم التي لا تقلق كثيراً لكلفة حروبها، حتى الولايات المتحدة الأميركية تقلق لهذا الأمر، لكن إسرائيل دائماً تخوض حروباً ممولة من ألفها إلى يائها، وهي لهذه الأسباب تبدو قادرة على تهديد جيرانها الأقربين والأبعدين، بمن فيهم أولئك الذين يملكون موارد اقتصادية هائلة. وغني عن البيان أيضاً أن إسرائيل لا تستطيع أن تخسر حروباً كثيرة، وأن ترتضي بمترتبات الهزيمة مثلما يستطيع أي بلد من بلدان الشرق الأوسط. ذلك أن أساس اعتراف الخصوم بوجود دولة إسرائيل وحقها في البقاء يعود إلى واقع أن الهزائم كانت من نصيب هؤلاء الخصوم. وأن تكون إسرائيل دولة لا تستطيع التعرض لهزيمة فعلية، أو يتعرض قسم من الأراضي التي تسيطر عليها وتبسط سلطانها على امتدادها إلى احتلال عربي أو إسلامي فذلك يعني بالنسبة لها خسارة هذه الأرض إلى الأبد. في الجهة المقابلة يبدو الفلسطينيون وسائر الدول العربية وشعوبها قادرين على تقبل الهزيمة والعمل بحسب موازين القوى التي تفرضها الحروب والاجتياحات من دون المغامرة بخسارة كل شيء.

هذا كله يعود إلى طبيعة نشوء الدولة العبرية والمشكلات البنيوية التي حفّت بوجودها منذ ولادتها، ولم تغادرها حتى اليوم. والحال، فإن الانتصار في الحروب بالنسبة لإسرائيل أمر يدخل في أسس بنية الدولة والنظام، وليس أمراً عابراً يمكن التعامل معه كما لو أنه تجرع لكأس السم الذي لا يميت، بل قد يمكّن الدولة المهزومة أمس من التدخل في شؤون جيرانها وتهديد محيطها اليوم. وحيث إن قادة إسرائيل يعرفون أن جيرانهم يملكون هذه الأفضلية عليهم، فإنهم يجدون أنفسهم مجبرين على صناعة مستقبل دولتهم في ميادين القتال. حيث لا يكون النصر إلا حاسماً وساحقاً وواضحاً للعيان. هكذا اعتبر العرب أنهم انتصروا في حرب أكتوبر 1973، لكن إسرائيل لم تهزم في تلك الحرب، وهكذا انتصر «حزب الله» في العام 2006، لكن إسرائيل أيضاً لم تهزم، وهكذا انتصرت «حماس» في العام 2008، وأيضاً لم تهزم إسرائيل. لكن هذه الحروب المتفرقة بدت بالنسبة لإسرائيل بالغة الخطورة على مستقبل الدولة والكيان، لذلك تصر إسرائيل على إنهاء حروبها كافة والانتصار فيها انتصاراً ساحقاً.

قد ينجح «حزب الله» في المنازلة الدائرة مع إسرائيل في منعها مرة أخرى من تحقيق أهدافها المتمثلة بالقضاء على التهديد الذي يمثله. لكن ذلك، مثلما يعرف «حزب الله» نفسه، لن يمر من دون دمار هائل يحيق بلبنان من النواحي كافة. وقد ينجح مرة ثالثة في منعها من تحقيق أهدافها، لكن هذا النجاح لن يمنع إسرائيل من التحضير لحرب جديدة إلى أن تحقق النصر الكاسح والنهائي. وفي هذا المجال تبدو انتصارات «حزب الله» مكلفة عليه وعلى الشعب اللبناني ويبدو الخيار المتاح أمامه ضيقاً أكثر مما يحتمل.

ذلك أن صمود «حزب الله» في أي حرب جديدة سيدفعه، ما إن تنتهي الحرب، إلى الاستعداد للحرب التي تلي، ومن دون تغيير حاسم في موازين القوى الدولية تسير موارده إلى نضوب، بمعنى أنه في هذه الحرب التي قد تقع، سيجد نفسه مجبراً على استنزاف موارده كافة، مما يجعل الحرب التي تليها أشد هولاً من سابقتها كما ستكون الحرب المقبلة أشد هولاً من تلك التي حدثت منذ عامين. هكذا يبدو «حزب الله»، ولبنان معه، محكوماً بلعنة الانتصار والصمود. فهو لا يستطيع إلا أن يصمد في مواجهة إسرائيل، لكن صموده سيجعل الكفة التي سيدفعها أفدح بما لا يقاس، ومرشحة لأن تتضاعف كل مرة، مما يجعل النصر لعنة والاستسلام جريمة وبين الحدين على «حزب الله» أن يجترح معادلة مستحيلة تقيه ولبنان من غائلة الحروب المقبلة.

* كاتب لبناني