أضاعت العاصمة الكويتية هويتها الوطنية منذ سنين طويلة، وبزحف وافد آسيوي الطابع في معظمه، مدعوم بإصرار حكومي على الإهمال، وقعت المدينة الكويتية الرئيسية بين فكّي الغربة، فلا الإنسان ولا العمران يعبران عن انتمائها وجذورها.اضطر سيد، بائع الماء والمشروبات الباردة الواقف خلف عربته البيضاء وسط سوق المباركية في قلب العاصمة أن يتخلى قليلا عن لهجته الصعيدية، ويتقن إتقانا يسيرا اللغات الهندية والبنغالية وربما اللغات الآسيوية الأخرى، حتى يتمكن في بعض الأحيان من تسويق وبيع بضاعته، التي يقبل على شرائها زبائن، جلّهم لايتحدثون العربية ويضطرون إلى التعامل مع بائع عربي. عندما يتحدث سيد، المصري الجنسية، وينطق المفردات الهندية ممزوجة باللكنة الصعيدية، تظهر عباراته بصورة خليط فريد من هذا وذاك، وبشخصيته المزدوجة يقدم مثالا صارخا على ما تحويه مدينة «التناقضات»، ويعطي أنقى الصور والإثباتات على أن العاصمة لاتحمل ولاتضم آيات وسيماء سكانها المفترضين.غياب كويتيكل شيء يوجد في المدينة، إلا الإنسان الكويتي وحاجاته وأسلوب ونمط حياته، كل شيء في العاصمة لا يدل على كويتيّتها، فباتت أقرب إلى ولاية فدرالية هندية أو فلبينية أو أخرى شرق آسيوية. الممارسة العملية اليومية لسيّد وغيره من الباعة العرب، والتعامل الدائم مع زبائن وبائعين ومتسكّعين من معظم الجنسيات الآسيوية وبعض العربية، يدفع من يمارس نشاطه في العاصمة إلى تعلم لهجات ولكنات غير التي حملها معه من بلده، وقد يبدو هذا الواقع المكتسب تطورا إيجابيا في ميدان توسيع الثقافة وتنمية مهارات اللغة وتطوير القاعدة العلمية لمن يتعاطى يوميا مع العاصمة وأهلها وزبائنها، لكن هذا الجانب المشرق من الموضوع يخفي في الضفة الأخرى منه ناحية قاتمة محزنة، ففي المشهد العام للعاصمة الكويتية شيء قليل من الكويت، كل الكويت وثوبها، لا يكاد يظهر في الرقعة الشاسعة من الخريطة العمرانية والجوهرية والسكانية غير الكويتية، من شارع فهد السالم حتى دوار دسمان، وفي المنطقة الواقعة بين شارعي الخليج العربي والسور، وفي كل أنحاء المدينة الكويتية الرئيسية التي تعكس وجه الدولة، أو يجب أن تعكسها.يحدث كل يوم أحد، عطلة الأسبوع بالنسبة لسواد كبير من أهل العاصمة، ومع دخول موجات الحر الأولى، أن يجتمع عدد يلفت الانتباه من الموظفين والعمال وبعض سكان العاصمة في بعض الميادين أو المجمعات التي يتقاسمون ملكية التنزه فيها وفقا للجنسية، فالفلبينيون يسيطرون على بناية سوق الوطية، والهنود في مبنى سوق الوطنية، وتنتشر في كل صوب تقريبا في العاصمة تجمعات كهذه، ومهما بلغت ضخامتها تضيع في الصورة الكبيرة المترامية الأطراف لأجزاء واسعة من العاصمة، تشهد كلها تجمع الآسيويين، العمالة المتقاربة في مستوى المعيشة والشكل واللون واللباس والأمل والطموح، إنها عاصمتهم، عاصمة من استوطنوا المنطقة وانتشروا في كل زواياها وشوارعها وأزقّتها وحفظوا كل مافيها عن ظهر قلب.قريبا من فندق الشيراتون، وحيث تتجمع أعداد كبيرة من الآسيويين، تجذبهم الكنائس القريبة، بمختلف طوائفها، تنتشر بنايات وأبراج كأنها خاضت منافسة محمومة على الأسبقية والأفضليّة في الارتفاع، القاسم المشترك الذي يجمعها في قالب واحد هو الأناقة، تعبر عنها بشكلها وتصميمها وأسلوب بنائها، وتمثل بعددها الذي يتزايد عاما بعد عام صورة لزحف الحداثة الآتي من جهة البحر، كأنها تبشّر بنهاية مرحلة وبداية أخرى، فالعاصمة بالشق العمراني وليس الشق البشري، هي التناقض بعينه، ترسّخ صفة مدينة «التناقضات» على العاصمة، وتزيدها نعتا جديدا يصلح لها «مدينة المفارقات».بنظرة خاطفة قد لاتبدو المدينة تحوي العجيب والغريب، لكنها بالنظرة الفاحصة المدققة تطرح علامتي تعجب واستغراب، فشتّان مابين العالم الفوقي والعالم التحتي، كيف يكون منطقيا أن يتجاور مبنى أنيق مثل عمارة h.s.b.c بالرخام والبوابة العريضة والزجاج اللامع والأرضية البراقة، مع الواجهات الخارجية المتواضعة الكئيبة للمحال الواقعة في مجمع الوطية، والفاصل بينهما شارع فحسب؟ ، متقابلان مباشرة لايقطع بينهما إلا شارع أبو بكر الصديق، لكنه يظهر وكأنّه يجمع بين زمنين متباينين وعصرين مختلفين وعالمين متباعدين.في وسط العاصمة الكويتية طبعا، تندر مشاهدة اللباس الكويتي، ومن المناظر الشحيحة أن يتجول الكويتي منفردا أو مع أسرته راجلا، ولديه في العزوف عن عاصمته كل الحق، فليس فيها مايشجّع على التنزّه أو المشي، فالمناظر العمرانية في كل أرجاء العاصمة عتيقة رمادية، والجدران والحيطان في غالبية المباني تحكي زمنا مضى منذ سنين طويلة، حتى الأرض التي يطؤها السائر في سوق العاصمة تعيسة متسخة لاترتدي حلتها الأساسية، فهي في مواقع كثيرة أرضيات غير مبلّطة، تغطّيها الرمال وأحيانا القذارة بكل أصنافها. ولاينفك أبطال العاصمة يطلّون بقوة داخل برواز أي صورة في وسط العاصمة.صخب الجالياتفي جولة « الجريدة» المطوّلة المتأنّية، مناظر من المعيب وجودها في العاصمة، ففي سوق المباركية فتحة صرف صحي شرّعت بابها من دون أي علامة تحذير في قطر دائرتها، وحاويات قمامة كبيرة موجودة في المكان الخطأ، أو ربما هكذا أراد لها من وضعها، إذ يبدو من انتشارها العبثي وكأنها دخلت عنوة إلى سوق المباركية من جهته المقاربة لحديقة البلدية، وهذه الأخيرة تشكّل هي الأخرى بالمساحة الشاسعة الخضراء المائلة إلى الاصفرار والذبول التي تغطيها خللا فجا، الوجه القبيح لغالبية المباني ذات الحيطان المسنّة التي لاتشبه في عتاقتها إلا حراّسها، فالتجاعيد التي تغزو وجوه هؤلاء هي بعد تسليط العدسة المكبرة عليها شبيهة بالكسور والنتوءات والتضاريس الصاعدة والنازلة على وجه البنايات.لاشئ في العاصمة ينتمي الى العصر أو يشي بالحداثة، وتبدو ممتلئة بكل الضجيج والصخب المصاحب للحياة الرخيصة الكلفة، إذ تنتصب في كثير من زوايا العاصمة المحال التي تبيع بضاعة الجاليات، التي تتخذ من المدينة مسكنا لها، الملابس والإكسسوارات والأطعمة والصحف والمجلات وأشرطة الكاسيت، والأهم من هذا كله الألفة التي يحصل عليها المتسوّقون الجائلون في المدينة مجانا، الفلبينية هدية التي جاءت إلى العاصمة برفقة زميلات لها في يوم إجازتها من عملها كخادمة لدى إحدى العائلات الكويتية في ضاحية صباح السالم، قالت وهي تطالع أحد المحلات في سوق الوطية « نقصد هذا المكان في أيام الإجازة كلما سنحت لنا الفرصة، هنا نلتقي الأصدقاء ونأكل ونقضي يوما ممتعا، لا أفكر في مكان آخر أشعر فيه بالراحة غير هذا المكان»، وطبعا كل صديقات ومرافقات هدية أيدن كلامها،في العاصمة الكويتية يمكن لأي عامل أو موظف مهما كان أجره زهيدا أن يحصل على كل مقومات وكماليات يوم الإجازة، حتى لو جاب العاصمة من كل أطرافها، نزهة ورفقة جميلة وتبضّع ووجبة عشاء، وهذا المستوى المعيشي الذي يتناسب مع العاصمة باستثناء الفنادق التي تتوزع في بعض شوارعها، يعكس شكل ومحتوى الطبقة السكانية التي تقطنها أو تزورها، ولعله السبب الذي يمنع المعنيين في المؤسسات الحكومية من تطوير عاصمة البلاد وخلع الحلة الرديئة التي ترتديها وإجراء تخطيط سليم لها يدخلها فعليا في عام 2007 .دائما مايقطع سيل المشاة العابر لشارع فهد السالم طريق السيارات، ويمنعها بتواطؤ مروري يفرضه الواجب من مواصلة طريقها إلى حين انقضاء فترة المد البشري الذي يطرح نفسه في بعض الأحيان على الرغم من سائقي المركبات، ولا يثير منظر عبور المشاة في طريق مكتظ أساسا بالسيارات الاستغراب بعدما بات مترافقا يوميا مع الطريق، وكأنه جزء لا يتجزأ منه كالرصيف أو الإسفلت، لكنه يهيّج، وبشدة أحيانا ، غضب أشخاص وحفيظة آخرين، وفي هذه المرحلة لا يملك أحد التغيير من الحال أو التهوين منه، فعابرو الطريق و «السبيل» يجتازون الشارع غير آبهين بعدد السيارات الآتية صوبهم أو بحجمها وسرعتها، ولا يثنيهم عن أداء مهمتهم اليومية أصوات أبواق المركبات الثائرة أو صراخ أصحابها الحانقين، بسبب الفوضى المرورية، خصوصا في مواقف السيارات، أو إشارات أيديهم المتذمرة، ويعتمد مخترقو الطرق هؤلاء في تنقلهم الدائم على السير، لأنهم من الطبقة التي لاتسمح لها إمكاناتها المادية المتواضعة باقتناء سيارة، وهم بحركتهم الدؤوبة يبثّون الحياة في أركان العاصمة الطاعنة في السن، وتخلق جذوة حماستهم نبضا متسارعا في الشارع يسهم في غربة المدينة التي تعيش في منفاها.بلا هويةلو ترك للشاب السوري فؤاد كل المجال للتعبير عن رأيه وأفكاره في كيفية تطوير العاصمة وتجميلها، لأفاد منه مسؤولو تحديثها، فلدى هذا الشاب الذي يعمل بائعا في الكشك العتيق الشهير المطل على شارع فهد السالم مقابل عمارة أسامة، أفكار خلاقة مبدعة، وفي قلبه أيضا حسرة على المماطلة في انتشالها من رداءة أوضاعها، يرى فؤاد، وهو من أهل المدينة العارفين بشعابها أن «التطوير بطيء جدا في العاصمة»، مندهشا من «لامبالاة المعنيين بالأمر». فؤاد يبيع منذ ثلاثة أعوام في كشك عمره ثلاثون عاما يحمل اسم «أفراح الوطن» في العاصمة، مقر تعاسة الوطن، روى أن موظفا حكوميا زارهم قبل مايزيد عن سنة كاملة ليبلغهم أن الموقع الذي يقع فيه كشكهم الذائع الصيت مقبل على تجديد وتطوير يبلغ مرحلة النسف الكامل، تهيئة لإنشاء مشروع ما يبسط حضوره على المكان وأهله، وكلام آخر كثير نطق به الموظف، وتفاصيل مطولة شرحها فؤاد، وباختصار، لا المشروع ولا الموظف ظهرا منذ ذلك الحين.يتشبّث إعلان إلكتروني ضخم مضيء على حائط خرج من حسابات المسؤولين وذاكرتهم حتى بات « مخضرما» على الرغم منه، نقيضان يحتضن أحدهما الآخر في سوق العاصمة الكبير المليء باللافتات والإعلانات التي لا ممثّل لها على الأرض، إذ أن عددا ليس باليسير من المحال في كل أنحاء السوق تعلوها أسماء على لافتات قديمة لاتعكس هويتها ولا تتطابق مع نشاطها، ومع أن المكان يدفع إلى الاكتئاب، ويتطاير في أجوائه الغبار والتراب، إلا أن الحياة لاتتوقف فيه، وتتفاوت في التسارع والصخب والازدحام بحسب أيام الأسبوع، في يومي الأحد والجمعة، اليوم الديني لشق من سكان العاصمة والعطلة الأسبوعية لشق آخر، يبلغ النشاط ذروته، وتمارس كل أنواع البيع والشراء، داخل المحال وفي الطرقات وعلى طاولات متنقلة وفي العراء، أما البضاعة فهي كل شيء، مستعمل وحديث، لا شيء في هذا السوق الملاصق لسوق الحريم غير قابل للبيع، حتى الهموم والأحلام والآمال تقدّم هي الأخرى في مذبحة « الداون تاون» وعلى مائدة تخلّفها.ومع كل التضاد السابق، يرتفع على إحدى بنايات العاصمة إعلان لإحدى شركات الاتصالات، يعرّف بخدماتها على أنها «فاست آند فاستر» ، سريع وأسرع، فيما تطور العاصمة لا يقتدي به ولايزال بطيئا وأبطأ. لا يبذل مرتادو الأسواق في العاصمة عناء كبيرا في اختيار المواقع التي يركنون فيها سياراتهم، فهي منتشرة بشكل عبثي يزيد من عبثيّة المشهد العام للمدينة، ولا يبذل بعض أصحاب المحال جهدا في إصدار رخص تتيح لهم الاستفادة من الأراضي والارتدادات الواقعة أمام عقاراتهم التجارية، كل ما عليهم فعله هو وضع طاولات فوقها البضاعة، يعلو صوتهم لمناشدة المتسوّقين، ولإعلان حدود المنطقة التابعة غصبا لمحيط تجارتهم بالنداء الشهير للفت الانتباه، «بيسب»، وتعني باللغة البنغالية، يا إخوان .مخالفات فاضحةالمقهى المواجه لفندق الشيراتون، عزاء العاصمة والمنبّه إلى كويتيّتها، فهو بالاسم والشكل والجوهر تعبير صارخ عن تبعيّة العاصمة لأهل الكويت، يقصده الكويتيون لتدخين الشيشة ومايصاحبها، والمظهر الآخر المدلّل على هوية العاصمة، جلوس العائلات الكويتية واجتماعها في أجواء حميمة أمام المطاعم المتخصصة في إعداد المشويات بجانب سوق الخضار في المباركية، وان وصلت المخالفات في هذه الساحة الى حد إغلاق الطرق على المارة، في انتهاك سافر للمساحات المخصصة للمتسوقين، وتماد على القانون، تحت بصر البلدية التي لا تبعد كثيرا عن موقع هذه المخالفات الفاضحة،اللون الرمادي يبسط نفوذه على هذه المنطقة، ووجوه الباعة «المتربّصين» للكل يعلوها الاسمرار والبؤس في آن، ويغيب عما يروّجونه التطور الصناعي والنمو التجاري والتضخم الإلكتروني، الذي يهيمن على كل عواصم البلدان الأخرى ومجمعاتها وأسواقها الجذابة التي تستوطن الذاكرة.أطراف العاصمةيلاحظ ابتعاد الكويتيين عن قلب العاصمة واستفادتهم من المنتزهات الواقعة على أطرافها ومشارفها، فعلى شاطئ البحر وفي المجمعات والمطاعم المطلة عليه تكثر الأسر الكويتية التي لاتجد في عمق العاصمة أي جاذب ترفيهي لها، مما يعطي انطباعا يوحي أن أهل العاصمة باتوا يتفادون الدخول إليها، بسبب تدني مستوى الخدمات والمرافق الحيوية وقلة المجمعات التجارية الحديثة وانعدام الراحة في ظل الازدحامات المرورية الخانقة على الدوام وافتقار وسط المدينة إلى كل ما يشجّع على التنزّه والتسوّق وقضاء الأوقات الممتعة.مجتمع ذكوريتعيش الأسواق البسيطة مثل المباركية والأخرى المحيطة بها حالا من هيمنة المجتمع الذكوري، إذ يسيطر الرجال على كل الممرات والزوايا والمساحات الفوضوية الضيقة في هذه الأسواق، بينما تنتشر في المحال البضاعة النسائية، وتكاد تكون هي السائدة في واجهات هذه المحال، مما يشكل تناقضا بين المعروض والزبائن.عزاب دسمانبجانب قصر دسمان، تشغل بعض البيوت المخصصة لسكن العزاب مساحات واسعة تقع قريبة أيضا من مقر السفارة البريطانية، وعلى الرغم من الإجراءات الأمنية المتوافرة في هذه المنطقة، فإن وجود مساكن العزاب فيها يشكّل خرقا للتحصينات المفترض اتخاذها، فضلا عما يمثّله من تشويه لصورة هذه المنطقة المحاذية للبحر التي يجب أن تعكس جمال وأناقة العاصمة.
تحقيقات ودراسات - تحقيقات
عاصمة الكويت تعيش في الغربة وتسكن مع التناقضات
17-06-2007