انتهت الانتخابات التركية البرلمانية التي أجريت قبل يومين بفوز كبير لحزب «العدالة والتنمية»، بتمكنه من استقطاب حوالي 47 في المئة من أصوات الناخبين رافعاً رصيده الانتخابي بحوالي اثنتي عشرة نقطة مئوية مقارنة بالانتخابات السابقة 2002، ولكن الجدل حول الحزب ومرجعيته ودوره في الحياة السياسية التركية لم ينته ِبعد. ولا يقتصر الجدل على الداخل التركي، بل يتجاوز حدود تركيا ليطال منطقتنا العربية التي انقسمت النخب السياسية فيها بين مؤيد للحزب أو معارض له، على خلفية مواقف تلك النخب من ظاهرة الإسلام السياسي. وظهرت علامات هذا الانقسام على التغطيات الإعلامية المتباينة لنتيجة الانتخابات، التي أصر بعضها على اعتبار أن نتيجة هذه الانتخابات تشكل «فوزاً كاسحاً» لحزب العدالة والتنمية بزعامة رجب طيب أردوغان، في حين تعمدت وسائل إعلام أخرى ترك انطباع باعتيادية هذه النتيجة. ولأن الحقيقة تقع دائماً بين تطرفين –كما تقول الحصافة السياسية والتحليلية- فلا يمكن اعتبار النتيجة «كاسحة» ولا يمكن اعتبارها «اعتيادية» في الوقت ذاته لمجموعة من الأسباب، لا يمكن اعتبارها «كاسحة» لأن عدد المقاعد التي يحصل عليها حزب «العدالة والتنمية» في البرلمان التركي الجديد هي 341 مقعداً فقط، وهي حصة أقل من المقاعد التي شغلها في البرلمان السابق، وذلك لأن الدستور التركي يمنع الأحزاب التي لم تتمكن من تخطي حاجز العشرة في المئة من الأصوات من التمثيل بالبرلمان ويوزع أصواتها على الأحزاب الفائزة. ولأن الانتخابات السابقة شهدت تمثيل حزبين اثنين فقط بالبرلمان، فقد حصل حزب «العدالة والتنمية» على مقاعد إضافية – بموجب الدستور التركي- وشغل بالتالي في البرلمان السابق ما يقارب 360 مقعداً. بمعنى آخر سيخسر حزب «العدالة والتنمية» تسعة عشر مقعداً في البرلمان الجديد. ناهيك عن أن هذه النتيجة لم تمكن حزب «العدالة والتنمية» من الحصول على ثلثي مقاعد البرلمان التركي البالغ عددها 550 مقعداً، وهي التي كانت ستمكنه من فرض النصاب القانوني على جلسات البرلمان، بل وتعديل مواد الدستور، وتجعل من نفسها بالتالي «كاسحة» بالمعنى السياسي والدستوري. ولأن ذلك لم يتحقق يمكن تصنيف هكذا توصيف فقط في إطار المقارعات السياسية والإعلامية لمؤيدي تيار الإسلام السياسي في تركيا والدول العربية سواء بسواء.

على الجهة المقابلة، لا يمكن أيضاً اعتبار نتيجة البرلمان الجديد «اعتيادية»، فالدلالة التاريخية الرمزية لهذه الانتخابات لا يجوز أن نمر عليها سريعاً، فللمرة الثانية فقط منذ تأسيس الجمهورية التركية عام 1923 يستطيع حزب سياسي تركي أن يفوز بالانتخابات للمرة الثانية على التوالي؛ رافعاً في الوقت نفسه حصته المئوية من أصوات الناخبين الأتراك. وتعود المرة الأولى إلى الخمسينيات من القرن الماضي عندما فعلها حزب الراحل عدنان مندريس. وعلاوة على البعد التاريخي تمكن هذه النتيجة حزب «العدالة والتنمية» من تشكيل حكومة جديدة منفرداً و من دون الحاجة إلى الانخراط في تحالف مع حزب آخر، وهي من وجه ثالث تصويت شعبي واضح على نجاح سياسات الحزب على صعيد الاقتصاد والسياسة الخارجية لتركيا. ويضاف إلى كل ذلك حقيقة جديدة تتمخض عن الانتخابات، وهي أن أطروحة المؤسسة العسكرية حول نوايا حزب «العدالة والتنمية» في الانقلاب على الدستور التركي، قد أصبحت أضعف إلى حد كبير. وأعاد هذا الفوز الكبير الاعتبار المعنوي إلى حزب «العدالة والتنمية» في صراعه على رئاسة الجمهورية وتطلعه إلى إيصال أحد مرشحيه إلى سدة الرئاسة في أنقره. وكانت الأزمة التي تصاعدت في الشهور القليلة الماضية ودفعت أردوغان إلى الدعوة الى انتخابات مبكرة لحسم الموضوع بسبب مقاطعة المعارضة العلمانية للجلسات وتعطيل نصاب الثلثين القانوني ومنع إجراء الانتخابات في البرلمان. ولكن مقاعد الحزب الحالية لم تحسن وضعه الإجرائي بهذا الخصوص، لأن المعارضة مازالت تملك إمكان تعطيل النصاب كما حدث منذ شهور.

Ad

سيشهد البرلمان الجديد استقطابات على محاور عدة، ولن يكون مستقطباً أحادياً بين العلمانيين والإسلاميين كما كان في البرلمان السابق، فإضافة إلى هذا الاستقطاب يشكل فوز المرشحين المستقلين من الأكراد (حوالي 24 مقعداً من أصل 28 مقعداً هي مقاعد المستقلين في البرلمان الجديد) استقطاباً قومياً بين الأحزاب التركية من ناحية، والنواب الأكراد من ناحية أخرى. كما أن عودة حزب «الحركة القومية» اليميني المتطرف إلى البرلمان التركي الجديد برصيد 71 مقعداً ستضغط على حكومة أردوغان للتدخل في دول الجوار وفقاً لأجندة قومية (راجع مقالنا هنا في الحادي عشر من الشهر الجاري) ويخلق تحدياً واستقطاباً من نوع آخر. ومن المتوقع أيضاً ظهور بوادر استقطاب يميني-يساري بين حزبي «العدالة والتنمية» و«الحركة القومية» من جهة، والنواب الأكراد الميالين تاريخياً إلى اليسار، ومعهم بعض نواب حزب «الشعب الجمهوري» العلماني (يسار الوسط) الذي حل ثانياً في الانتخابات برصيد 110 مقاعد، من جهة أخرى. لم يعد البرلمان التركي مستقطباً على خلفية واحدة كما نرى، بل على عدة خلفيات، وهي نتيجة مهمة لتركيا ودول المنطقة ونخبها السياسية.

أهم نتائج انتخابات البرلمان التركي الجديد لا تتلخص في الفوز الكبير لحزب «العدالة والتنمية» فحسب، بل قبل ذلك في الحيوية البرلمانية المرتقبة والتي يجب أن يتابعها بإمعان أنصار «الفوز الكاسح» ومؤيدو «النتيجة الاعتيادية».

 

كاتب وباحث مصري