لطالما ردد بعض أركان 14 آذار المقولة التالية: أتى أهل السُّنة في لبنان إلى حركة الاستقلال بقضهم وقضيضهم، وهي، أي حركة الاستقلال، حصن الموارنة وموقعهم الأخير، فما بال الجنرال ميشال عون الماروني يغادر حركة الاستقلال ما إن بات تحققه قيد الإمكان التاريخي بانضمام أهل السُّنة إلى المطالبين بتحقيقه ناجزاً؟السؤال يبدو وجيهاً ومفحماً، لكن الجنرال عون يعرف بغريزته السياسية، دون أدائه، أن الاستقلال الذي يدعى إلى الدخول في حركته ليس مضموناً، وثمة ألف سبب وسبب يدعوه للتحسس والاشتباه. إذ من قال إن استقلال لبنان ممكن من دون قيادة مارونية حاسمة لحركته؟ وهذا ليس سؤالاً طائفياً على الوجه الذي يراد منه ذم السؤال واستصغار شأنه تمهيداً للإشاحة عن الرد عليه. واقع الأمر أن عصبية هوية لبنان التي بدأت تتشكل أول ملامحها في العشر الأوائل من القرن الماضي، واكتملت تماماً في أربعينياته، لتواجه من بعدها بتحديات قومية عربية هائلة وبالغة الخطورة، كانت، أي هذه العصبية اللبنانية، من موروثات الزمن العثماني وتكاد تكون خاصة بلبنان وجبله الماروني تحديداً. فلبنان بين دول الجوار كافة التي نالت استقلالها في تلك الفترة، هو الدولة الوحيدة، التي كانت تتحرك وتنشط بالاستناد إلى مقومات هوية عصبية، وهي هوية ناقصة، لكنها كانت كافية لتبرير استقلال الكيان. ذلك أن الدول العربية المجاورة، ما خلا مصر، وهي بلد قائم بنفسه منذ أزمان لا تحصى، استمرت بالنسبة لنخبها مجرد تشكيلات قانونية وحقوقية مؤقتة في انتظار إنجاز الوحدة العربية وبناء الإمبراطورية الممتدة من المحيط إلى الخليج. بل إن سورية نفسها لم تكن على قناعة تامة باستقلالها، وخاضت في مغامرة الوحدة مع مصر وخرجت منها خائبة. والحديث عن المملكة الأردنية الهاشمية قبل الملك الراحل الحسين بن طلال، لم يكن غريباً عن هذا التطلع، حيث كان مقدراً لأمراء الأسرة الهاشمية حكم الدولة العربية من سورية والعراق، لكن مقادير السياسة لم تناسب طموحات الأمراء. عصبية لبنان، ومنذ نشوئه في واقع الأمر، كانت تستند إلى جوارها العربي لكنها كانت تنزاح عن الانتماء العربي وتحذر من المشاريع العربية حذرها من الاستعمار نفسه، بل إن استقلال لبنان، أُخذ يوم أُخذ من جهتين، من الاستعمار الفرنسي من جهة أولى ومن الحركة القومية العربية بقيادة النحاس باشا في مصر التي كانت يومها تحت الوصاية البريطانية من جهة ثانية. كان على لبنان أن يضمن موافقة أوروبا والحركة القومية العربية على استقلاله ليتسنى لدولته أن تقوم وتستقل. على هذا لم يكن استقلال لبنان عن محيطه العربي ممكناً من دون دور ماروني فاعل، ولم يكن الاستقلال نفسه ممكناً عن الاستعمار الفرنسي من دون دور إسلامي فاعل في متن السياسة اللبنانية. هكذا قامت تسوية عام 1943 على ركيزتين أساسيتين، المورانة من جهة والسنة من جهة ثانية، وهذا ما عاد اتفاق الطائف وثبته في متن الدستور، بعدما كان عرفاً وتقليداً. والحال، فإن استشعار الموارنة اللبنانيين اليوم ثانوية دورهم في السياسة والاقتصاد والثقافة والعلاقات الخارجية لمصلحة أقطاب الطائفة السنية ووجهائها، يجعل من طروح التيار العوني مقبولة عموماً في أوساط الطائفة، وتضرب على وتر بالغ الحساسية لدى الطائفة التي أدمنت الهجرة من البلاد في العقود الأخيرة. والأرجح أن ميشال عون رأى، بغريزته السياسية، أن تحالفه مع الشيعة السياسية قد يجعل الطائفتين الأقليتين في وسط المحيط السني الواسع أقدر على التنطح لحكم البلد. لكن الغريزة السياسية الصائبة اصطدمت بأداء بالغ الرداءة جعل الموارنة في لبنان يخسرون ما كان قد بقي لهم بعد حروب طويلة وهجرات متمادية وانقلابات أدوار في المنطقة وحولها.لم يقم الجنرال عون وزناً للمشروع الشيعي في المنطقة، نهضة الطائفة الشيعية في كل مكان في العالم العربي وجواره، كانت تترافق هذه المرة مع دور مسيحي يخبو في كل مكان، في العراق كان الأمر واضحاً وضوح شمس الصباح، وفي لبنان لم يكن في حاجة كبيرة لمن يدلل على مواطن الخلل بأصابعه. كانت الأمور واضحة ومفهومة، لكن الجنرال لم يكن في موقع يسمح له أن يصغي جيداً. فما لبث أن دخل في مغامرته إلى الحد الذي لم يعد يستطيع معه الرجوع. لكنه في طريقه إلى مساره الراهن دمر جسوراً كثيرة، ليس من السهل إعادة ترميمها على النحو الذي يرجوه مسيحيو لبنان عموماً. * كاتب لبناني
مقالات
الجنرال عون: الغريزة الصائبة والأداء الرديء
26-04-2008